CSS Menus Samples Css3Menu.com

 

 

 

 

جنون العالم   في مذكرات (+) غلاب

 

د. عبد العالي بوطيب

 

تنقسم الأجناس الأدبية ، كما هو معلوم ، لمجموعتين رئيسيتين ، مختلفتين ومتكاملتين ، الأولى يمكن وصفها بالتخييلية ، نظرا لاعتماد كتابها شبه الكلي على ملكة التخييل في نسج عوالمهم الحكائية ، حتى و إن طعموها أحيانا بأمشاج واقعية، مستمدة من حيواتهم الخاصة و/أو العامة ، و من ضمنها الرواية ، القصة ، المسرحية وسواها، والثانية يمكن نعتها بالإحالية لاستبعاد أصحابها التخييل ، قدر المستطاع، وتركيزهم الكلي على نقل الوقائع الحقيقية ، خاصة كانت أو عامة ، و هنا تندرج السيرة، السيرة الذاتية ، المذكرات ، اليوميات وغيرها ، دون إغفال ما قد يوجد طبعا بين أجناس كل مجموعة من تمايزات داخلية ، فنية و فكرية ، تضفي على كل واحد منها مشروعية خاصة على مستويي الكتابة و القراءة  . بحيث يستحيل تعويض جنس بآخر ، أو استبداله بغيره .

و عليه فإذا أخذنا ، بالمناسبة ، على سبيل المثال لا الحصر، بعض أجناس المجموعة الثانية ، سنجد أن السيرة غير السيرة الذاتية، رغم كونهما معا يشتركان في نقل الحياة الخاصة ، لأن الأولى  يتولى كتابتها شخص آخر غير صاحبها المتوفى أساسا خلافا للثانية الذي ما زال على قيد  الحياة (+) ، و هما معا يختلفان طبعا عن المذكرات التي تختص  أساسا بسرد أهم و أبرز الأحداث العامة التي شارك فيها الكاتب شخصيا أو شاهدها ، كما تجمع على ذلك مختلف التعريفات : ( المذكرات حكي كتابي لأحداث شارك فيها الكاتب أو عاينها في حياته الخاصة و العامة)(1) . و لعل هذا ما يفسر سر انحصار دائرة كتاب المذكرات في العظماء من الكتاب و السياسيين و القادة العسكريين و غيرهم ، لدرجة ساد معها الاعتقاد  بأن قيمة المذكرات من قيمة أصحابها ، قناعة و إن لم تكن خاطئة ، إلا أنها ، في الوقت ذاته ، ليست دائما صحيحة ، كما تؤكد ذلك مجموعة من النماذج الفاشلة لشخصيات كبيرة كمذكرات الرئيس الأمريكي السابق جورج بوش الابن مثلا، رغم ارتفاع حجم مبيعاتها.

على أنه إذا كان المسعى الأساسي من وراء كتابة المذكرات عموما، كما يؤكد ذلك التعريف السابق،  يكمن في جرد الأحداث العامة التي عاينها أو شارك فيها الكاتب ، مقرونة بشروحات ضافية تبرز وجهة نظره الشخصية في ما يتعلق بظروفها و ملابساتها و المساهمين فيها ، فإن ذلك لا يعني بأي حال من الأحوال ، أن الغاية من قراءتها ينبغي بالضرورة أن تنحصر في هذا الجانب فقط ، و لا تتجاوزه لسواه من الجوانب الأخرى الضمنية العديدة التي قد تحفل بها عادة  المذكرات الناجحة ، بما فيها تلك التي تخرج عن المقاصد الواعية المباشرة لكتابها ، و هو ما يعني بعبارة أخرى ، أن غاية القارئ قد لا تكون دائما مطابقة لغاية الكاتب ، و لا ينبغي لها أن تكون كذلك ، إن هي أرادت المحافظة طبعا على استقلاليتها و فاعليتها .  

لذلك اخترنا في هذه القراءة  لمذكرات الأستاذ عبد الكريم غلاب السياسية و الصحافية الوقوف عند بعض هذه الجوانب ، و ما أكثرها، في محاولة متواضعة لكشف ما تزخر به من ثراء معرفي ضمني يتجاوز بكثير حجم ما تصرح به في مقدمتها . و قد شجعنا على ذلك اقتناعنا الراسخ بأن القراءة الحقيقية ، أيا كان نوعها و منهجها ، ينبغي أن لا تنحصر مهمتها الرئيسية في مجرد استنساخ حرفي، كلي أو جزئي، لمحتويات ما تقرأه ، تفاديا لكل ما من شانه الإضرار بمشروعية القراءة ، و تشويه حقيقة العمل المقروء، مما سيساهم حتما في تفاقم أزمة القراءة و رفع حدة خطورتها على مستقبل الكتاب عامة ، و الأدبي منه على وجه التحديد ، كما نبه لذلك بعض الباحثين (+) .

لهذه الأسباب و غيرها ، اعتمدنا في هذه القراءة مقاربة منهجية استنتاجية تتوخى الوقوف أساسا عند أهم و أبرز الجوانب العامة ، الصريحة و الضمنية، التي تزخر بها هذه المذكرات، تاركين حرية العودة لقراءة تفاصيلها الدقيقة في المتن لمن أراد .

لبلوغ هذه الغاية ، قسمنا دراستنا منهجيا لقسمين رئيسيين : خصصنا الأول لما أسميناه بالمقاصد الصريحة المباشر للمذكرات ، كما وردت طبعا على لسان صاحبها في المقدمة ، و هي بالمناسبة محدودة و سهلة ، لا يحتاج اكتشافها سوى لقليل من الجهد . و الثاني لمقاصدها الضمنية غير المباشرة ، و هي عادة أكثر من الأولى و أصعب ، بحيث يتطلب استخلاصها مجهودا أكبر.

1)   المقاصد الصريحة :  و هي كثيرة و متنوعة ، سأتوقف عند ثلاثة منها ، و هي :

أ/ التكير ببعض مظاهر جنون العالم : أعتقد أني لست  في حاجة هنا للتذكير بأن الحديث عن مقاصد غلاب الصريحة من وراء كتابة مذكراته السياسية و الصحافية لا يشذ كثيرا ، سوى في بعض التفاصيل ، عن مقاصد كل كتاب المذكرات عموما ، و المتمثلة أساسا في رغبتهم الملحة في تفريغ ذاكرتهم من محتوياتها ، و تدوينها عن طريق الكتابة ،  صونا لها من كل مخاطر محتملة ، قد تهدد سلامة بقائها و انتقالها للأجيال المقبلة ، لذلك فهم لا يتوخون ، بعملهم هذا، مجرد استرجاع حميمي لذكريات ثمينة سابقة ، يخشون أن يطويها النسيان فقط ، و إنما يسعون أيضا ، بالإضافة  لذلك ، إلى إعادة الروح مجددا لهذه المرحلة المنصرمة الهامة ، بأحداثها و مشاهداتها ، من حياتهم الشخصية ، و منحها فرصة ثانية أطول للخلود و البقاء، تليق بمقام و جهود أصحابها ، و هو ما عبر عنه غلاب نفسه صراحة في المقدمة الرائعة التي استهل بها عمله القيم هذا ،قائلا : ( كاتب المذكرات يقف أمام فترة من التاريخ كحاكم يصدر مجموعة من الأحكام ، محللة معللة ، تتعلق بأحداث يضفي عليها الحياة ، بعد أن حاول الزمان أن يطمس معالمها ، و تتعلق بأشخاص أو شخصيات قد تكون الأرض قد طوت أحداث بعضهم ، و قد يكون بعضهم ما يزال على قيد الحياة، هؤلاء و أولئك جميعا سيطويهم التاريخ ، و لكن المذكرات تحتفظ لهم بجانب إيجابي أو سلبي من حياتهم ، يذكرهم به القارئون و الذاكرون، و تسجل المذكرات جانبا من حياتهم نسيه التاريخ و أهملته السيرة الذاتية )( 2).

و بالمناسبة لا بد من الاعتراف ، بأن غلاب استطاع بعمله هذا تدوين و تخليد العديد من الأحداث التاريخية الهامة ، الوطنية، القومية و الدولية ، المرتبطة  تحديدا بالمجالين السياسي و الصحافي ، كما يشير لذلك صراحة في العنوان . و هكذا استعرض ، بأسلوبه الشيق المعهود ، في حوالي سبعمائة و ثلاثين صفحة من الحجم المتوسط ، موزعة على سبع و ثلاثين عنوانا ، مجموعة كبيرة من الأحداث التي عاشها ، عبر المشاهدة و / أو المشاركة ، على مدى قرابة ثلاثة أرباع قرن ، عرف ، باعتراف الجميع  ، بجسامة أحداثه و خطورتها. يكفي أن نذكر منها دوليا ،على سبيل المثال لا الحصر ، : ( الحرب العالمية الأولى و الثانية، الثورة الروسية ، الحرب الباردة، الأزمة الاقتصادية العالمية، الاستعمار ، الاستقلال، وعد بلفور ، ضياع فلسطين ، نكسة 1967، حرب 1973، حرب الخليج الأولى و الثانية، احتلال العراق، أحداث 11 شتنبر، و الحرب على الإرهاب إلخ ) ، و وطنيا : ( استعمار المغرب ، ظروف الاستقلال ، نشأة الحركة الوطنية ، معركة الديمقراطية ، معركة التنمية ، الانقلابات العسكرية ، و المسيرة الخضراء ، إلخ). للوقوف على القيمة التاريخية الحقيقية لهذه المذكرات ، و ما يمكن تحصيله من وراء قراءتها، و هو أمر طبيعي جدا بالنظر لخصوصية المرحلة التاريخية المنقولة من ناحية ، و لمكانة صاحبها و مؤهلاته الشخصية الخاصة من ناحية أخرى، ما دامت الأحداث المحكية ، مهما بلغت ، لا تعد وحدها كافية لتحقيق النجاح المطلوب ، ما لم يتوفر لها الشخص المؤهل ، فكريا و ثقافيا ، لتقديمها بالشكل الأمثل ، و إلا فسيكون مصيرها الفشل و النسيان ، كما حصل للعديد من المذكرات : ( اهتم بأدب المذكرات كثير من الشخصيات الفكرية و السياسية و العسكرية، ترك بعضهم ذخيرة تقرأ في كل الفترات ، و لا يذبل عطاؤها ، و كان بعضهم من التفاهة بحيث روى الأحداث كما عاشها الناس ، و كما قد يرويها التاريخ الميت ، باستثناء بعض الأسرار، أو ملابسات الأحداث )( 3).

و هو ما لا ينطبق طبعا على مذكرات الأستاذ غلاب ، بالنظر لما يتمتع به، أولا ، من معرفة و خبرة كبيرتين في ميدان الكتابة عامة ، و السردية منها على وجه الخصوص ، و لما عهد فيه ، ثانيا، من حرص قديم / جديد في تدقيق مشاريع أعماله، الفكرية و الأدبية ، قبل الإقدام على تنفيذها ، كما تشهد بذلك أقواله و أفعاله ، لهذا السبب غالبا تأخرت مذكراته ، كسيرته الذاتية ، عن موعدهما المنتظر من قبل القراء (+) ، و كيف لا ! وهو يصر، في كل ما يكتبه ، على ربط الإمتاع بالإفادة ، في علاقة وثيقة و منسجمة يستحيل معها الفصل بينهما دون الإساءة لجوهر العملية الإبداعية ، على اختلاف أجناسها .حقيقة يكفي لملامسة بعض جوانبها ، التذكير بالقناعة العامة المؤلمة التي اختارها عنونا لخاتمة مذكراته ( عالم مجنون .. مجنون..مجنون..لا يغري بالحياة ) (4) ، و الطريقة الحكائية المقنعة المعتمدة في بلوغها و تبليغها ، لدرجة لا يملك معها القارئ سوى التسليم دون مناقشة.

ب/ إبراز موقفه الشخصي من هذا الجنون:إذا كانت الأحداث المحكية ، أيا كانت طبيعتها ، تبقى عاجزة عن أن تحكي نفسها بنفسها ، و تحتاج بالتالي للقيام بذلك لخدمات سارد ، قد يكون أحيانا هو نفسه الكاتب ، كما هو الحال هنا في المذكرات، ما دام يحكي عن ذكرياته الشخصية ، إما باعتباره مشاركا أو معاينا ، و هو ما يؤهله في الحالتين معا ليكون أحد شهودها المعتبرين ، فإنه ، بحكم موقعه هذا ،لا يمكنه ، أبدا ، إلا أن يحكي معها موقفه الشخصي منها ، من خلال آليات عديدة و مختلفة تتوزع بين الشرح ، التفسير ، التأويل و التبرير إلخ ، تتضافر جميعها لتعكس وجهة نظره الشخصية فيها ، إما كأحداث ، كما حصل مثلا عند حديثه عن استعمار المغرب، و معركة استقلاله ، و انشقاق الحزب ، و حدث المسيرة الخضراء ، و موقف الجزائر من استرجاع الصحراء،و الانتخابات التشريعية، و عمل الهيئات الحكومية والمنتخبة ، و الكتلة الوطنية و غيرها ، أو في الشخصيات العامة المساهمة فيها ، من ملوك ورؤساء و زعماء سياسيين و عسكريين و رجال دولة إلخ ،كما هو الحال بالنسبة مولاي يوسف ، محمد الخامس ، الحسن الثاني، محمد السادس ، الحبيب بورقيبة ، علال الفاسي ، بلافريج ، البكاي ، عبد الله إبراهيم، الطريس ، عبد الرحيم بوعبيد ، المهدي بنبركة، أوفقير ، البصري ، كديرة و آخرين ، و هي بالمناسبة جميعها اعترافات جريئة و نزيهة ، يطبعها الصدق و الصراحة ، المعهودتين عادة في شخص غلاب ، و في هذه المذكرات تحديدا ، كما يقر بذلك في مقدمته : ( و لعلي لست في حاجة إلى القول بأن ضميري كان وراء عملي ، فلم أكذب و لم أزيف، و لم أدع مالا أملك منه الكثير، حاولت ألا تكون هذه المذكرات ذاتية شخصية)(5).

تصريح تؤكده مجموعة من القرائن النصية ، يكفي أن نستحضر منها على سبيل المثال لا الحصر  بعض الشهادات الموضوعية الإيجابية ، التي قالها في حق مجموعة من غرمائه السياسيين المعروفين ، كالشهيد المهدي بنبركة و المرحوم عبد الرحيم بوعبيد ، مقابل انتقاده الشديد لبعض السلوكات المشينة لإخوان له في الحزب، أثناء حديثة عن ملابسات استقالته الصعبة من إدارة جريدة العلم ، بعد زواج كاثوليكي استغرق عقودا طويلة ، يقول : ( فهمت ، و لم أكن في حاجة إلى مزيد من الفهم ، أن (العلم) تسخر، و بسبب ما دون علمي ، لتحقيق أهداف غير شريفة..انجرفت بها إلى الهاوية، و كان يعز علي أن تنجرف ، و انجرف معها، فأنا طول حياتي أنحاز إلى منطقة الشرف )(6) .  مما يعكس بالملموس إلى أي حد استطاع غلاب أن يكون صادقا و محايدا فيما يحكيه، و أن يحول ، قدر المستطاع طبعا ، دون تدخل نزعاته الذاتية الواعية فيها . و مع ذلك ، و للأمانة التاريخية و العلمية، لا بد من الاعتراف بأن هناك فرقا كبيرا بين الصدق الحقيقة،و أن ما قاله غلاب على أهميته و نزاهته يبقى ، مع ذلك ، مجرد حقيقة شخصية تعكس وجهة نظر صاحبها ، و لا ترقى أبدا للحقيقة في ذاتها باعتبارها مطلبا صعبا غالبا ما لا يدرك(+) ،  لذلك تحتاج كباقي الشهادات الأخرى، للدراسة و الفحص و المقارنة ، كي تصبح حقيقة تاريخية كاملة غير منقوصة ، و لعل هذا ما دفع أندري جيد للقول : ( مهما يكن حرص الكاتب على الحقيقة كبيرا، فإن صدق المذكرات يظل دائما منقوصا)(7)، و هنا يكمن سر تعامل المؤرخين الحذر مع ما يرد في المذكرات عادة من معلومات هامة ، و احتياطهم البالغ في التعامل معها كحقائق ثابتة، اقتناعا منهم بأنها تبقى، رغم مصداقية أصحابها ، دون الحقيقة الكاملة، و بالتالي يتعذر اعتمادها كوثيقة تاريخية قبل التأكد من صحتها، علما بأن ذلك لا يقلل في شيء من قيمة المذكرات عامة ، و مذكرات الأستاذ غلاب خاصة، كما لا يعلي من شأن التاريخ ، بقدر ما يبرز الفروق الدقيقة القائمة بينهما ، و بالتالي المهام المعرفية الخاصة الموكولة لكل واحد منهما : ( فلأدب المذكرات، كما يقول غلاب نفسه، تقنية قد تختلف عن تقنية كتابة التاريخ)(8)، لذلك فهي : ( تصحح التاريخ أحيانا ، و تعنى بما يهمله المؤرخ)(9).

 ج/ التعريف بإسهامات الكاتب في مجالي السياسة و الصحافة: لاشك أن كاتب المذكرات ، و هو يستعيد الأحداث العامة التي عاشها، بالمشاركة أو المعاينة، لا يكتفي بإيرادها مجردة من تفاصيلها و حيثياتها، بما فيها تلك المتعلقة طبعا بأبطالها و حجم مساهمة كل واحد منهم ، لذلك يجد نفسه مضطرا ، في كثير من الأحيان ، بحكم موقعه الشخصي فيها، للحديث  عن مساهمته الخاصة، و بالتالي عن نفسه، في بعدها العام  طبعا، مما يجعل هذا النوع من الكتابة يتقاطع ، إلى حد ما ، بالسيرة الذاتية ، بحيث : ( ينذر ألا يقحم كاتب المذكرات نفسه ، من حين إلى آخر، فيما يكتب، و بذلك يغدو، دون قصد منه أحيانا، كاتب سيرة ذاتية، و كذلك الشأن بالنسبة إلى كاتب السيرة الذاتية، إذ يندر ألا تطفو على سطح ذاكرة الأحداث العامة التي عاشها بحيث يضطلع أحيانا في ما يكتب بدور المدون لتلك الأحداث، و إن لم يكن ذلك منه متعمدا)(10)،  و هو ما ينطبق تماما على مذكرات الأستاذ غلاب أيضا ، رغم وعيه العميق بذلك ، و حرصه الشديد على استبعاد كل ما له صلة بحياته في بعدها الخاص طبعا لا العام ، إلا فيما اضطر إليه لأسباب معرفية صرفة ، كما حصل مثلا في الفصول الأولى للمذكرات ، المتمحورة أساسا حول ظروف نشأته الأولى بمسقط رأسه بمدينة فاس المغربية مع بداية دخول الاستعمار، و ما صاحبها من ظروف سياسية صعبة عجلت برحيله للقاهرة  قصد متابعة دراسته العليا هناك ، يقول في مقدمته مبررا هذا التقاطع السردي الاضطراري  : ( حاولت ألا تكون هذه المذكرات ذاتية شخصية، و ما له طابع شخصي في الفصول الأولى أجازه أنني لا أعتبره شخصيا ، لظروف الأحداث و الفترة المضطربة في حياة الشبيبة المغربية، بعد أن استقرت الحماية ، أو ظنت ذلك، و بدأ التفكير في تقدم نظامها في ظروف غير مواتية، ثم هي فصول تسجل مرحلة التثقيف و التكوين الثقافي و الوطني و النضالي الذاتي ، يعود إليها العمل المتحرك الذي حاولت معظم فصول المذكرات أن ترسمه )(11).

و مع ذلك ، و رغم كل التوضيحات المقنعة السابقة، تبقى هذه المعلومات الشخصية ، على قلتها و لا قصديتها ،مفيدة للقارئ في معرفة بعض مراحل حياة غلاب ، و الظروف التاريخية المضطربة التي عاشها ، و مدى تأثيرها في تشكيل شخصيته   خصوصا في مراحلها الأولى ، بدليل حجم التقاطع و التطابق الملحوظ بين هذه المعلومات و ما ورد في بعض كتبه السير ذاتية الأخرى، و بخاصة كتابيه ( سفر التكوين)(+) و ( القاهرة تبوح بأسرارها )(+) .

و بالمناسبة ، تجدر الإشارة إلى أن الإضافة المعرفية الحقيقية التي تقدمها هذه المذكرات عن صاحبها، تتجاوز بكثير مجرد استحضار معلومات خاصة مباشرة عن الظروف العامة لنشأته و طفولته ، بقدر ما تكمن أساسا فيما تعكسه من صفات ، فكرية و أخلاقية ، عالية تميز شخصيته ، كما تظهر ذلك ضمنيا  مشاركاته و مواقفه و تعليقاته الثابتة و المنسجمة من مختلف الأحداث المحكية, و ما يطبعها من صدق و صراحة و جرأة و ثبات على المبادئ ، و غيرها ، مما قد لا نجد له حضورا كميا كبيرا في كتاباته الأخرى ، بما فيها السير ذاتية لأسباب مرتبطة طبعا بخصوصية كل جنس أدبي،

و هنا يكفي أن نستحضر ، بالمناسبة، على سبيل المثال لا الحصر، ما أعتبره شخصيا أبرز و أهم خاصية فكرية تضمرها هذه المذكرات عن صاحبها على الإطلاق، لدرجة تحولت معها لخيط ناظم وحيد و موحد لكل الأحداث و الوقائع المروية دون استثناء، يتعلق الأمر بما يمكن تسميته إجمالا بموقف غلاب الثابت الرافض لكل مظاهر جنون العالم السائدة في المرحلة المعنية ، على اختلاف أحجامها ومستوياتها ( داخلية / خارجية ) ( وطنية / قومية / دولية) ، و نضاله المستميت ، بالقول و/ أو بالفعل ، من أجل مقاومتها و محاولة إعادة الأمور إلى أوضاعها الطبيعية ، حتى و لو كلفه ذلك مواجهة أقرب الناس إليه ، و التضحية بأعز ما يملك ، تماما كما فعل حين استشعر خطر التطاول على اختصاصاته كمدير مسؤول عن جريدة حزبية ،حرص دائما على أن تظل شريفة بعيدة عن الحسابات الشخصية الضيقة للمتحزبين ، كيفما كانت درجات مسؤولياتهم ، مما اضطره لتقديم بيان توضيحي في الموضوع ، ضمنه استقالته الفورية من جميع مسؤولياته الحزبية و الصحافية على حد سواء، قبل أن يتراجع عن الأولى نزولا عند رغبة إخوانه الملحة في اللجنة التنفيذية ، ليتأكد بالملموس ، ما سبق أن أشرنا إليه في غير ما مناسبة (+)، من أن غلاب و إن تعددت إسهاماته الإبداعية ، الصحافية و السياسية، فإنها لا تعدو في النهاية أن تكون  مجرد تنويعات لحقيقة جوهرية واحدة ثابتة لا تتغير، هي غلاب المناضل ، لدرجة نعتبر معها كل محاولة فصل بينهما ، إساءة لجوهر هذه الكتابات ، و إفراغا لها من بعض مقاصدها الرئيسية ، و هو التغيير و الإصلاح. لذلك أعتقد أن كتابته لهذه المذكرات لا تخرج عن هذه القاعدة ، بقدر ما تؤكدها ، لدرجة يمكن الجزم معها بأن غلاب لم يتوخ من وراء كتابتها مجرد تخليد مظاهر جنون العالم في المرحلة المحكية ، و ما بذله و غيره من جهود حثيثة ، صحافية والسياسية لتغييرها  فقط ، و إنما أيضا لتذكير الأجيال المقبلة بتلك المظاهر كي لا تقع مجددا ضحية لها  ، و تعمل ما في استطاعتها لتفاديها ، تماما كما هي غاية كل مذكرات معتقلي سنوات الجمر و الرصاص (+).

ليتأكد بالملموس القصد النضالي العميق و الخفي لهذا العمل، و ما تربطه من أواصر قوية بأعمال صاحبه الأخرى ، على اختلاف أشكالها و أجناسها، أو ما أسميناه سابقا بالخيط الناظم الموحد لمشروع  غلاب الفكري و الإبداعي المتعدد    .

2/ المقاصد الضمنية: و هي كثيرة و متنوعة طبعا، اخترنا الوقوف هنا على اثنين منها لارتباطهما المباشر الوثيق بمشروع صاحبها الفكري و الأدبي الكبير و المتنوع:

أ/تعميق فهمنا لدوافع كتابة بعض الأعمال السابقة: إذا كنا قد تحدثنا سابقا ، عما أسميناه ، الخيط الناظم المميز و الموحد لجميع أعمال الأستاذ غلاب ، على اختلاف أجناسها و تنوع موضوعاتها ، بما فيها المذكرات طبعا، فإن هذا لا يعني أبدا ، بأي حال من الأحوال،  أنه الخاصية اليتيمة القائمة بينها ، ما دمنا نعثر على جوانب أخرى عديدة، و لو بدرجات أقل ، لكنها تبقى مع ذلك ، و في جميع الأحوال مفيدة و معبرة، كما هو الحال مثلا بالنسبة للعلاقة الضمنية القائمة بين أعماله الإحالية ( السيرة الذاتية / المذكرات / الكتابة الرحلية إلخ) بالتخييلية ( الروائية و القصصية إلخ) ، و ما تضمرة الأولى من معلومات قيمة لا شك  ستساعد القارئ على معرفة بعض حيثيات أعماله الثانية، و عليه ، فرغم أن الكل مقتنع ، و على رأسهم الأستاذ غلاب نفسه، باستقلالية النص، واكتفائه بذاته ، بعيدا عن كل مساعدة إضافية خارجية أيا كانت طبيعتها، قد تسيء له و لقارئه ، و لعل هذا ما جعله يؤكد في غير ما مناسبة ، على أن مهمة الكاتب تنتهي مع صدور الكتاب، و لا يحق له بعد ذلك التدخل فيما كتبه ، إلا من باب التعسف ، ما دام قد أعطي فرصته كاملة غير منقوصة في التعبير عن كل ما يريده بالطريقة التي يريدها، و عليه بالمقابل أن يترك الكلمة للقارئ، و هذا صحيح طبعا إلى حد كبير، و إن كان ، مع ذلك ، لا يحول أبدا دون استفادة القارئ من هذه النصوص الموازية و غيرها ، بما فيها الكتابات الإحالية ، على سبيل الاستئناس طبعا، من أجل تعميق فهمه لخلفيات كتابة أعماله التخلييلية و غيرها ، ما دام التقاطع  قائما بالضرورة بينها ، بحكم انتسابها جميعها لمؤلف واحد ، وبالتالي  صدورها عن رؤية يفترض أنها واحدة، شريطة ألا يتجاوز ذلك طبعا حد الاستئناس ، و أن لا تؤخذ كحقائق نهائية غير قابلة للنقاش، لأن من شأن ذلك الإساءة طبعا لاستقلالية النص المقروء أولا ، و مصادرة حق القارئ ثانيا ، لذلك نعتقد أن الوعي العميق بهذه المخاطر كفيل بمساعدة القارئ على الاستفادة مما قد تقدمه هذه الكتابات من معلومات ضافية إضافية هامة عن  خلفيات كتابة النص المقروء ، دون سلبه حقه الشخصي الطبيعي في الفهم و التأويل.

و في هذا الإطار تجدر الإشارة إلى أن قراءة مذكرات غلاب تفيد حتما في إلقاء المزيد من الأضواء الكاشفة على ظروف و حيثيات كتابة أعماله السابقة الأخرى، تخييلية كانت : ( سبعة أبواب /دفنا الماضي /المعلم علي /شروخ في المرايا /صباح و يزحف الليل /عاد الزورق إلى النبع /ما بعد الخلية /لم ندفن الماضي إلخ) ، أو إحالية ( سفر التكوين م الشيخوخة الظالمة/ القاهرة تبوح بأسرارها إلخ) ، تماما كما جاء في الكلمة المعبرة التي صدر بها الكاتب مشكورا النسخة التي أهداني إياها ، يقول : ( صفحات من مذكرات قد تيسر الطريق للتعرف على خلفيات إبداعات أخرى ) (+).

ب/ إضافة جنس المذكرات لخزانة الكاتب : من المقاصد غير المباشرة الهامة التي يضمرها هذا العمل القيم، إضافته لخزانة صاحبه السردية العامرة جنسا سرديا آخر ظل ينقصها، يتعلق الأمر طبعا بالمذكرات، هذا الجنس الذي انتظره العديد من النقاد و الباحثين المتابعين لتجربة الأستاذ غلاب ، طويلا ، مثلما انتظروا قبل ذلك سيرته الذاتية، لا ليعرفوا رأيه الخاص في الأحداث و الشخصيات العامة الهامة التي عاشها طوال حياته الزاخرة فقط، و إنما ليقفوا أيضا على الطريقة السردية التي سيقدم بها الكاتب هذه المذكرات ، و ما ستضيفه لخزانته الشخصية و العربية من إضافة نوعية ، طالما ألفوها في أعماله السابقة ، لا بالنظر فقط لما راكمه من خبرة طويلة عريضة مع القلم ، و القلم السردي تحديدا  ، كما تشهد بذلك قائمة أعماله المشهورة في هذا المجال، و لا لما يعرف عنه من حرص دقيق دائم أيضا على إخراج جميع أعماله ، دون استثناء ، في أبهى صورة تعكس فكره و تاريخه ، و إنما ، اساسا ،  لأن المذكرات ، كما يفهمها غلاب ، ليست مجرد استحضار كمي لأحداث هامة سابقة فقط، بقدر ما هي أيضا عمل أدبي بكل ما في الكلمة من معنى، يستوجب مجهودا إبداعيا كبيرا لتحويل هذه الذكريات من مجرد مادة حكائية عادية ، لتحفة فنية خاصة، تمتلك كل شروط الإمتاع و الإفادة على حد سواء. و هنا يكمن سر تميز مذكرات عن أخرى ، كما يؤكد ذلك غلاب بحق في مقدمته: (اهتم بأدب المذكرات كثير من الشخصيات الفكرية و السياسية و العسكرية، ترك بعضهم ذخيرة تقرأ في كل الفترات فلا يذبل عطاؤها، و كان بعضهم من التفاهة بحيث روى الأحداث كما عاشها الناس و كما قد يرويها التاريخ الميت، باستثناء بعض الأسرار أو ملابسات الأحداث)(12). لذلك أعتقد أن من بين الاشكالات الأساسية التي واجهها الأستاذ غلاب في كتابة مذكراته ، و قبلها في جميع كتابات السابقة الأخرى، إشكال البحث عن شكل مناسب لعمل لا يقدر فقط على أساس حجم مادته و نوعها ، و إنما أيضا للطريقة الفنية الجذابة المعتمدة في تقديمها ، و لعل هذا ما يفسر بعض أسباب تأخره و تردده في نشره و إخراجه للقارئ، يقول : ( و قد ترددت طويلا ، لبعض السباب التي ذكرت، أن أضع هذه المذكرات بين يدي القراء، و كلما عدت إليها ، أو إلى فصول منها، وجدت حافزا من العمل نفسه يدعوني ألا أحتفظ بهذا الذي بذلت فيه جهدا ، ما كنت أستطيعه ، لولا ما يطبع عملي جميعه من إصرار يكاد يصبح تحديا)( 13).

و فعلا ، فقد وفق الأستاذ غلاب إلى حد كبير، كعادته دائما ، في إيجاد الصيغة المناسبة لتقديم  ذكرياته في قالب سردي جذاب ، لا يقل إمتاعا عن قيمة مادته المعرفية ، لدرجة يشعر معها القارئ كما لو كان يقرأ عملا إبداعيا تخييليا لا إحاليا .

و هذا ليس غريبا طبعا عن كاتب متمرس ، راكم  طوال رفقته العريضة مع القراءة و الكتابة  خبرة عميقة أهلته لاكتساب معرفة حقيقية بأدق خصوصيات كتابة المذكرات و ما تطرحه من صعوبات ، متولدة أساسا عن وضعها الملتبس عند نقطة تقاطع مجموعة من الكتابات الأخرى القريبة منها ، مما يستوجب على الكاتب اتخاذ مختلف الاحتياطات الضرورية المناسبة ، تفاديا لكل ما قد يسيء لجوهرها و خصوصيتها ، لنستمع لتوضيحاته في هذا المجال: ( لأدب المذكرات تقنية قد تختلف عن تقنية كتابة التاريخ ، أو الرواية أو السيرة الذاتية ، أو أي جنس أدبي آخر، ذلك أن ذكريات الكاتب لها صلة بالذات ، فيها جانب من الشخصية في صناعة الحدث ( المذكرة)، في جانب من أحداث قد تبدو عادية يعيشها كل الناس ، و لكن الكاتب ، يعتبر ( و هي تقديم لحياته الخاصة) أن لها أثرا في سيرة أعماله و صلاته بالآخرين، و لها أثر في متابعته، و في الاتصال العاطفي و الفكري به ، بالحدث والشخصيات و الأجواء التي عاش فيها، لذلك فكاتب المذكرات مؤرخ و أديب و شاعر أحيانا، يختار أسلوبه الذي يستمد من الفكر و القلب ، بقدر ما يستمد من الصناعة الإبداعية، لا يقدم أحداثا ، و إنما يقدم لوحات صاغها أو ساهم في صياغتها بكل ممكناته الفكرية و أحاسيسه ، بل و ضميره،،،)(14).

لذلك نعتقد صادقين أن غلاب بعمله هذا لم يكتف ، فقط ، بتخليد ذكرياته و شهاداته في حق بعض الأحداث و الشخصيات الهامة العامة ، و ضمان انتقالها للأجيال اللاحقة تذكيرا لهم بما عاشته الأجيال السابقة من مظاهر جنون عديدة و مختلفة ، في مرحلة تاريخية عصيبة و مضطربة ، تفاديا لما قد يواجههم مستقبلا من مظاهر مماثلة أخرى ، و إنما أضاف لخزانته السردية الزاخرة أيضا عملا أدبيا جديدا جادا ، لا يقل روعة و إفادة عن أعماله السابقة الأخرى ، و إن اختلف عنها طبعا شكلا و مضمونا ، ليستحق بذلك ، عن جدارة ، لقب سيد الكتابة السردية بالمغرب ، دون منازع .

 

 

 

 

بيان الإحالات و الهوامش الواردة في الدراسة:

 

 

+/ عبد الكريم غلاب : عبد الكريم غلاب في مذكرات سياسية و صحافية، منشورات المعارف ن الرباط، 2010.

+/ أنظر جورج ماي: السيرة الذاتية، تعريب : محمد القاضي و عبد الله صولة، بيت الحكمة ، قرطاج ، 1992.

1/ أنظر:Nouvelle Encyclopédie : éd :Bordas , 1985 , p :3332

+/ أنظر تزفيطان  طودوروف: الأدب في خطر، ترجمة : عبد الكبير الشرقاوي، دار توبقال للنشر، 2007.

2/ عبد الكريم غلاب : مذكرات مذكورة، 2010، ص:4.

3/ عبد الكريم غلاب : مذكرات مذكورة، 2010، ص:6.

+/ أنظر ما قاله في مقدمة مذكراته ، و ما جاء في رده على أسئلة محاوريه في مجلة آفاق ، عدد: 2، سنة: 1991، ص:147 و ما بعدها.

4/ عبد الكريم غلاب: مذكرات مذكورة، 2010،ص:70.

5/ عبد الكريم غلاب: مذكرات مذكورة، 2010، ص:9/10.

6/ عبد الكريم غلاب: مذكرات مذكورة، 2010،ص:313.

+/ جورج ماي: مرجع مذكور، 1992،ص:193.

7/ جورج ماي: مرجع مذكور ، 1992،ص:194/195.

8/ عبد الكريم غلاب: مذكرات مذكورة، 2010،ص:7.

9/ عبد الكريم غلاب: مذكرات مذكورة، 2010،ص:8.

10/ جورج ماي: مرجع مذكور، 1992،ص:134.

11/ عبد الكريم غلاب : مذكرات مذكورة، 2010، ص:10.

+/ عبد الكريم غلاب: سفر التكوين، المؤسسة العربية للدراسات و النشر، بيروت، 1996.

+/ عبد الكريم غلاب: القاهرة تبوح بأسرارها، منشورات دار الهلال، القاهرة، عدد: 591، سنة: 2000.

+/ يراجع بهذا الخصوص ما قلناه في أطروحتنا عن أعمال الأستاذ عبد الكريم غلاب الروائية ( عمل جامعي مرقون بكلية الآداب بمكناس) ، و بما جاء في كتابنا : الكتابة و الوعي ، منشورات دار الحرف، القنيطرة، 2007.

+/ تراجع بهذا الخصوص جميع مقدمات مذكرات معتقلي سنوات الجمر و الرصاص دون استثناء.

+/ مقتطف من نص الإهداء الذي زين به المؤلف مشكورا النسخة التي أهداني إياها.

12/ عبد الكريم غلاب: مذكرات مذكورة، 2010، ص:6.

13/ عبد الكريم غلاب : مذكرات مذكورة، 2010، ص:9.

14/ عبد الكريم غلاب: مذكرات مذكورة،2010،ص:7.