CSS Menus Samples Css3Menu.com

 

 

 

حــنــا مـينه ولعنة البحــــر

 

 

د. عـبد العالي بوطيب

 

 

    لاشك أن للبحر مكانة خاصة في تجربتي الأديب السوري الكبير حنا مينه ، الروائية والواقعية على حد سواء، و هو أمر طبيعي بالنسبة لإنسان قضى فترة غير قصيرة في مدينة ساحلية ( اللاذقية) ، خبر فيها البحر و أسراره ، و حياة رواده و مآسيهم ، إما عن طريق المعاينة أو المعايشة، خصوصا بعد احترافه العمل بالميناء مبكرا ، تحت ضغط إكراهات ظروف مادية صعبة، لتلبية أبسط حاجيات أسرته الفقيرة المكلومة في موت والده ، و تحمله أعباء المسؤولية العائلية الثقيلة ، في جو مطبوع بويلات الحرب والاستعمار ، و ما تفرزانه عادة من أوضاع اقتصادية و اجتماعية متردية على مختلف المستويات و الأصعدة ، تماما كما وصف ذلك ، بصراحته الصادمة، صديقه الكبير سعيد حورانيه في المقدمة الجميلة التي وضعها لروايته الرائعة ( الشراع و العاصفة) قائلا: (على شاطئ ( اللاذقية) المدينة السورية الخضراء، التي تستحم في البحر، و تندى ظفائرها بصنوبر جبال العلويين، ولد حنا سنة 1924، من عائلة فقيرة جدا... تقلب في مهن متعددة، و عوده طري، فهو الذكر الوحيد في العائلة، و الأفواه الجائعة بحاجة إلى جني يديه، فعمل مستخدما في بقالية و مساعدا لصيدلي، و صانعا في دكان حلاق مدة طويلة حتى أتقن الصنعة... و في سنة 1939 حدثت مأساة اللواء العربي بمعاونة فرنسا، فهاجرت العائلة إلى اللاذقية، حيث افتتح حنا دكانا للحلاقة، و كان زبائنه من الفقراء و البحارة، فاختزن في أعماقه كثيرا من قصصهم الأسطورية عن صراعهم اليومي مع الخطر، و كانت الحرب العالمية الثانية و معارك الاستقلال قد تركت سورية في دوامة من الاضطرابات)(1).

 

لهذا السبب و لآخر يتمثل في قناعته الراسخة:

 

 أولا بأن الكتابة كالولادة تماما ، ينبغي أن تكون طبيعية، تنجز بمواعيد مضبوطة ، لا تعرف التقديم و لا التأخير ، إلا في حالات معدودة قسرية و قيصرية خاصة، تنعكس آثارها السلبية على طبيعة المولود و قيمته : ( يقولون : على الكاتب ألا يكتب إذا استطاع ألا يكتب، يريدون أن حالة الامتلاء لدى الفنان ، تتطلب التفريغ في عمل ما ، و أنه في هذا الموقف غير مخير، فهو إذا امتلأ بالشحنة الفنية ، كان كالمرأة الحامل، عندما يدركها المخاض في الشهر التاسع، لا تقوى على دفعه ، و لا قبل لها بتأجيل الولادة، فإذا استطاعت أن تؤجل ذلك ، كان معناه أن أيام الحمل لم تستوف بعد، و أن الطلق الذي جاءها كان خلبيا، يصلون من ذلك إلى أن الكاتب مرغم على الكتابة لأن امتلاءه لم يعد يحتمل التأجيل، و في هذه الحالة فإن أمامه أحد خيارين : أن يكتب أو يموت)( 2).

و ثانيا بأن مولود الكاتب ينبغي بالضرورة أن يحمل بعض ملامح ذخيرته المعرفية المباشرة ( التجارب ) و غير المباشرة ( المقروءات)، باعتبارها مرتكزه الأول و الأخير في كل ما ينتجه ، و إلا اعتبر عمله لقيطا  مزيفا ، تماشيا و المقولة النقدية المعروفة القائلة بأن الكاتب لا يكتب في النهاية سوى عن نفسه، بشكل من الأشكال ، و إن كان ذلك لا يعني ، بأي حال من الأحوال، أن كتاباته تدور حتما في فلك  سيرته و متعلقاتها، لأن الحديث عن الذات ، كما هو معلوم ، لا ينحصر دائما و بالضرورة ، في هذه الحلقة الضيقة المباشرة  المكشوفة ، بقدر ما يتجاوزها ليطال جوانب أخرى ، أعمق و أوسع ، قد تبدو للبعض ، ظاهريا على الأقل ، منفصلة عن صاحبها تماما ، و هو ما يعني بعبارة أخرى ، أن الكاتب لا يكتب إلا عما يعرف ، و بالتالي عما يحمل في أحشائه من أفكار و تجارب ومعارف، تجعل ولادته / كتابته سهلة طبيعية ، تفرض نفسها و لحظتها عليه دون تمحل أو عناء ، و لعل هذا ما عبر عنه حنا مينه نفسه في إحدى شهاداته قائلا : ( لكنني في كل ذلك لم أكن أفكر بالكتابة، إن الحياة العريضة التي عشتها بكل مرارتها و حلاوتها ، قد عشتها لأنها كانت حياتي ، قبل أن أفكر بالكتابة ... و بعد أن فكرت فيها و صرت كاتبا )( 3).

لذلك كله ، كان طبيعيا جدا أن يحظى البحر و رجاله بنسبة عالية من الحضور و الاهتمام في أعمال هذا الروائي العربي الكبير ، لدرجة ذهب معها البعض لاعتباره ، من هذه الناحية : ( أحد رواد البحر في الأدب العربي )(4) ، علما بأن : ( البلاد العربية ، كما يقول نفس الناقد ، بمجملها واقعة على أطراف البحار، و لكننا منذ ألف ليلة و ليلة، لم يعرف البحر سبيله إلى أدبنا، لماذا؟ ذلك أننا لا نزال عبيد الجاهلية كما كان أسلافنا ، لا نزال نتحدث عن الصحراء و الخيل و الإبل و السيوف و الرماح و نعيش في عبودية مواضع أتى عليها الزمن ، نعيش تاريخا و لا نعيش الحياة، نعيش الفارس العربي الفاتح لنعوض عن ذل الحاضر، و لكن شعبنا أيضا يجترح المعجزات ، إنه لا يحتاج إلا إلى عين بصيرة محبة ، منزهة عن زجاجية الرؤية ، و عن التطلع إلى السماوات ، بينما امتداد شعاعها الأرض)( 5).

تعليل يبقى على وجاهته هشا ضعيفا غير قادر على الإقناع بسلامة هذه التسمية و مشروعيتها، لأنه يختزل جهود الرجل المتوالية في تحديث الكتابة الروائية العربية و ترسيخها في استبدال موضوعات قديمة بأخرى جديدة، تماما كما فعل أمير الشعراء أحمد شوقي حين اكتفى في فهم الحداثة الشعرية بوصف القطار و الطائرة و الباخرة عوض الهودج و الناقة ، و لم يذهب أبعد من ذلك في سبر  أغوار حقيقة العصر العميقة المتوارية خلف هذه المظاهر الحضارية المادية. و لعل هذا ما يفسر الحملة الضارية التي شنها عليه ، و على أمثاله ، أعضاء مدرسة الديوان بزعامة عباس محمود العقاد. لذلك أعتقد أن في هذا الوصف النقدي الشائع عن تجربة حنا مينه الروائية كثيرا من الحيف و التجني، لا لأنه يختزلها في بعد فضائي جزئي، يبقى ، على أهميته ، مجرد جزء شكلي بسيط في جهود هذا الروائي الكبير فقط، و إنما أيضا لكونه يعطي انطباعا مغلوطا للقارئ العادي عن حقيقة هذه التجربة، كما لو أن كل أعمال حنا مينه الروائية دون استثناء تدور في هذا الفضاء و حوله و لا تتجاوزه لما هو أبعد . و هو ما تنفيه نصوص الرجل طبعا و تفنده ، ذلك أنه باستثناء روايات معدودة  ( كحكاية بحار)، و ( الشراع و العاصفة) و غيرهما ، حيث : ( رجال البحر المردة، في صراعهم اليومي المرير مع الموت المتمثل في البحر الهائج ، و العواصف الغادرة ، يقابلونها بأشرعتهم الممزقة، و قواربهم العتيقة، و عزمهم المستمد من صخور الشطآن )(6). نجد روايات عديدة أخرى لنفس الكاتب لا تتعلق إطلاقا بالبحر ، و إن فعلت ، فبشكل عابر طفيف ، كما هو حال  ( الثلج يأتي من النافذة) ( الشمس في يوم غائم) ( نهاية رجل شجاع) و( المصابيح الزرق) ، على سبيل المثال لا الحصر، هذه الأخيرة التي وصف موضوعها الناقد شوقي بغدادي في مقدمته الرائعة قائلا: ( ـ المصابيح الزرق ـ بكل بساطة، رواية تصور حياة جماعة من الناس البسطاء أيام الحرب العالمية الأخيرة، و من ورائها حياة اللاذقية ، و سوريا، أو بكلمة واحدة تصور الجو المحموم الذي كانت تعيشه بلادنا أيام الحرب، فإذا صح أن تكون لكل قصة عقدة ، فعقدة ـ المصابيح الزرق ـ هي أزمة الحرب) ( 7).

فكيف بعد هذا كله يجوز تعميم فضاء جزئي ، مهما بلغت درجة حضوره ، على تجربة روائية بأكملها ، معروفة بتنوع موضوعاتها و فضاءاتها و رهاناتها ؟ ثم ألا يعتبر ذلك تقزيما لجهود روائي كبير حاول طوال مسيرته الروائية العريضة تطوير كتابته و تجديدها مع طلعة كل عمل جديد ، و أخيرا ، و ليس آخرا ، ألا يعد ذلك غبنا لهذه الجهود ، و تضليلا ظالما لجمهور قرائه المفترضين، علما بأنه حتى لو كان حضور هذا الفضاء البحري مطلقا ، يشمل مجموع أعمال حنا مينه الروائية دون استثناء، فإن ذلك وحده ، مع ذلك ، لا يعد كافيا ، في تقديري ، لإضفاء الشرعية على هذا الوصف الجائر، لا لشيء ، إلا لأن عنصر الفضاء ، على أهميته ، لا يراد لذاته في البناء الروائي، و إنما لأهداف تعبيرية أخرى أبعد و أعمق ، يلعب فيها الفضاء الموظف بالتأكيد دورا حاسما ، لكنه يبقى ، رغم ذلك ، و في جميع الحالات ، مجرد وسيلة لغاية أو غايات أخرى أهم ، لذلك لا يستحق أن يختزل بنية العمل ككل، و هي بالمناسبة عادة سيئة انتقلت عدواها للمجال النقدي من الكتابة الصحفية ، لدرجة أصبح استعمالها ، على سلبياته ، عاديا ، لا يثير أي اعتراض(+). و هكذا أصبح نجيب محفوظ روائي القاهرة ، و إبراهيم الكوني  روائي الصحراء أو الطوارق،  تماما  كما اختزلت جهود روائيين آخرين ، على كثرة ما راكموه ، في عمل واحد يخفي ، بشكل ظالم ، كل الأعمال الأخرى، و ما  قد تحويه من إضافات فنية و فكرية هامة ، و هكذا عرف نجيب محفوظ ب ( الثلاثية)، و جمال الغيطاني ب ( الزيني بركات)، و حيدر حيدر ب ( وليمة لأعشاب البحر) و عبد الرحمان منيف ب ( مدن الملح) و محمد زفزاف ب ( المرأة و الوردة ) و القائمة طويلة . لذلك فلا غرابة إذا ما وجدنا بعض الروائيين يعلنون صراحة تذمرهم الكبير من مثل هذه الألقاب ( الأحكام الجزافية )، على حد تعبير نبيل سليمان،  التي لا تعكس في شيء حقيقة تجاربهم ، بقدر ما تشوهها و تختزلها ، و ما الرغبة الغريبة التي عبر عنها المرحوم محمد شكري ، مرات عديدة ، في قتل عمله الروائي الرائع ( الخبز الحافي ) ، و تحرير تجربته بالتالي من قيود هيمنته ، سوى دليل قاطع على ما نقول ، لأن اهتمام النقاد الزائد به دون غيره من أعمال الكاتب الأخرى، جعله يشعر كما لو أن تجربته، على تنوعها ، اختزلت نقديا في هذا العمل  وحده . و هو ما يرفضه قطعا .

إحساسا لا أعتقد أنه يقتصر على شكري وحده ، ولو أنه انفرد ، دون غيره بالتعبير عنه جهارا، و في غيرما مناسبة، و إنما يتقاسمه و إياه أدباء كثيرون شوهت تجاربهم أحكام نقدية سريعة و مبتسرة كهاته التي التصقت ظلما بأعمال حنا مينه الروائية .

 لذلك أعتقد أنه آن الأوان لإعادة النظر في مثل هذه الأحكام ، و تخليص الخطاب النقدي من انعكاساتها السلبية، إحقاقا للحق ، و إنصافا لأصحابه، إذ من غير المعقول أن يستمر النقاد في ترديد مسكوكات كهاته مناقضة تماما لطبيعة المهام و المسؤوليات النبيلة الملقاة على كواهلهم، و المتمثلة اساسا في تقويم الإبداع و تصويب اعوجاجه ، دون أن يبدأوا بإصلاح خطابهم أولا ، و تحريره من مثل هذه الأوصاف الجائرة ، خصوصا عندما يتعلق الأمر بأوصاف مناقضة تماما لحقيقة التجارب الموصوفة ، كما هو الحال بالنسبة لتجربة حنا مينه الروائية ، لما لها من مضاعفات سلبية كبيرة تتجاوز حدود الكاتب المظلوم لتطال المشهد الأدبي و النقدي برمته : (  فمثل هذا الصنيع ،  يقول نبيل سليمان ، ليس في المحصلة مساعدا للرواية السورية أو للنقد الأدبي على تطوير سيرورتهما التي حاولنا أن نقدم في هذه الدراسة صورة أولية لهما، فهاتان السيرورتان تحتاجان إلى جدية أخرى و حوار آخر، إلى موقف آخر و غطاء نظري و نقد تطبيقي غير هذا )(8).

 

 


 

 

بيا ن الهوامش و الإحالات:

 

 

 

1/ سعيد حورانيه: مقدمة رواية الشراع و العاصفة، منشورات دار الآداب ، بيروت، الطبعة الثانية، 1977، ص: 7.

2/ حنا مينه: هواجس في التجربة الروائية، مجلة الطريق ، عدد : ¾، سنة 1981، ص:13/14.

3/ حنا مينه : شهادة مذكورة ، مجلة الطريق ، عدد: ¾، سنة: 1981، ص: 12.

4/ سعيد حورانيه : مقدمة مذكورة ، رواية الشراع و العاصفة، منشورات دار الآداب ، بيروت ، الطبعة الثانية، 1977، ص: 10.

5/سعيد حورانيه: مقدمة مذكورة، رواية الشراع و العاصفة، منشورات دار الآداب ، بيروت، الطبعة الثانية 1977، ص: 10.

6/ سعيد حورانيه: مقدمة مذكورة، رواية الشراع و العاصفة، منشورات دار الآداب ، بيروت ، الطبعة الثانية، 1977، ص: 9.

7/ شوقي بغدادي : مقدمة رواية المصابيح الزرق، منشورات دار الآداب ، بيروت، الطبعة الثالثة، 1979، ص: 9.

+/ أنظر بهذا الخصوص إشارة الأستاذ نبيل سليمان الواردة في دراسته الموسومة بالنقد و الرواية السورية، مجلة الطريق، عدد: ¾، سنة : 1981، الصفحة : 227 و ما بعدها.

8/ نبيل سليمان : دراسة مذكورة ، مجلة الطريق ، عدد: ¾، سنة :1981، ص: 232.