CSS Menus Samples Css3Menu.com

 

 

 

من لسانيات الجملة للسانيات الخطاب

(قراءة في الطفرة السردية )(+)

 

 

د. عـبد العالي بوطيب

                                                   

 

    إذا كان الحديث عن خصوصيات الأجناس الأدبية بشكل عام، مهمة صعبة ومعقدة، فإن الأمر يزداد صعوبة وتعقيدا حين يتعلق الأمر أساسا بدراسة الجنس الروائي، نظرا لأنه الجنس الأدبي الوحيد، من بين كافة الأجناس الأدبية الأخرى، الأكثر جدة وتجددا في الوقت ذاته، مما دفـع بعض المنظرين، كباختين مثلا، لمقارنة دراسته بدراسة (اللغات الحية) من حيث المشاكل التي يطرحها، مقابل تشبيهه دراسة الأجناس الكلاسيكية الأخرى، بدراسة (اللغات الميتة).

    فإذا كانت الأجناس الأدبية الكبرى المعروفة، كالملحمة والتراجيديا والكوميديا، قد اكتملت معالمها، واتضحت خطوطها العريضة، مما مكن المنظرين والأدباء، على حد سواء، من تكوين تصورات واضحة ومكتملة عنها، تمثلت في كثرة المؤلفات والدراسات التي تناولتها بالتحليل، فإن الأمـر، على خلاف ذلك تماما، فيما يخص الرواية، فهي بالإضافة لكونها لم تكتمل بعد، توجد في حالة تجدد وتطور دائمين، كما لاحظ ذلك باختيـن : (إن الرواية على خلاف الأنواع الأخرى لاتمتلك قوانين خاصة، وما هو فعال تاريخيا، يتشكل من عدة نماذج روائية، وليس من القواعد الروائية بحد ذاتها)(1).

وغياب القواعد هذا، يعتبر طبعا من أولى الصعوبات التي تواجه كل باحث يود الخوض في هذا المجال، يقول بيرنار فاليط (B. Valette) : (مهمة النقاد والمنظرين أصبحت أكثر صعوبة أيضا، لغياب القواعد التي على الروائيين اتباعها أو خرقها، فعوض مذاهب كونية، لاتوجد إلا تقاليد، وهي أيضا تختلف تبعا لتقلبات الأعراف الأدبية)(2).

غير أنه إذا كانت مسألة غياب القواعد هذه، تشكل عائقا في وجه دارسي الأعمال الروائية، فإنها تعد بالمقابل عامل إغراء وتشجيع، بالنسبة للكتاب والمبدعين، الذين أصبحوا يشعرون، وهم يمارسون الكتابة الروائية، أنهم أكثر تحررا من بعض القيود التي قد تحول دون التعبير عما يريدون. ولم لا ! ( والرواية (...) هي الجنس الأدبي الذي يرفض، قبل كل شيء، القواعد والمذاهب الاستتيقية، والحدود التصنيفية، ورهبة النقاد الذين يسعون لإقامة نظرية أدبية، إنه - جنس أدبي- يستهوي الكتاب بالحرية التي يمنحها لهم).(3) لدرجة وصفه معها الناقد ميشيل رايمون : ب ( جنس بلاقانون)(4).

من هنا يمكن تصور حجم الصعوبات التي تعترض الباحث وهو يواجه جنسا أدبيا على هذه الدرجة من التنوع والمرونة، الأمر الذي انعكست آثاره " السلبية " بشكل واضح على نوعية الدراسات والأبحاث التي انجزت عن هذا اللون التعبيري على مر العصور.

وهكذا، وعوض أن تواجه هذه الدراسات، إشكالية هذا الجنس الأدبـي في ذاته، محاولة استخلاص الخصوصيات الابداعية التي تجعل منه جنسا أدبيا متميزا عن باقي الأجناس الأدبية الأخرى، سيرا مع الرأي القائل بأن : (مفهومنا عن النوع ينبغي أن يتكىء على الجانب الشكلي )(5) .كما يشير بذلك صاحبا كتاب ( نظرية الأدب)، أصبحنا أمام دراسات تتستر عن هذا العجز المنهجي في مواجهة الإشكال، إما بمقارنة الرواية بأجناس أدبية قريبة منها، كالقصة القصيرة والسيرة والسيرة الذاتية إلخ، أو بالتحول للتاريـخ الأدبي قصد ربط الرواية بالألوان التعبيرية السابقة عنها. كالملحمـة مثلا، التي تعد الرواية امتدادا طبيعيا متطورا لها. كما لاحظ ذلك بيرنار فاليط (B. Valette) : ( إن محاولات تعريف الرواية، رغم أنها من الكثرة والتنوع، بالقدر الذي هي عليه، فإنها تصنف، عمليا، جميعها في خطوتين اثنتين :

- إما أنها تقابل الرواية بأجناس أدبية أخرى مجاورة (...)

- أو تستعرض التطور التاريخي لنشوء الرواية ...)(6).

لذلك يمكن القول، إجمالا، بأن المحاولات التنظيرية الأولى التي تناولت الرواية، تبقى، مع ذلك، دراسات تندرج في مجال التاريخ أو سوسيولوجيا الأدب، أكثر منها دراسات شعرية (poétique ) تسعى لاستخلاص خصوصيات هذا الجنس الأدبي، كشكل تعبيري متميز عن غيره من الأجناس الأخرى.

إلى أن جاء الشكلانيون الروس، أوائل القرن الماضي، فحققوا باعتراف الجميع قطيعة مع التصورات الأدبية السابقة، بدعوتهم للاهتمام بدراسة ما يجعل من العمل عملا أدبيا، ولا شيء غير ذلك، يقول ياكبسون أحد أعلام هذه المدرسة : ( إن موضوع علم الأدب، ليس هو الأدب، وإنما الأدبية، أي ما يجعل من عمل ما عملا أدبيا )(7). وبذلك وضعوا حدا للوضعية الشاذة السابقة التي كان عليها الأدب باعتباره ( أرضا لا مالك لها)(8) على حد تعبير بنسلوفسكي.

فماهي نتائج هذا التحول الإجرائي والمنهجي على الدراسة الأدبية بشكل عام، ودراسة النصوص السردية والروائية منها على الخصوص؟ لقد كان لدعوة الشكلانيين الروس نتائج إيجابية عدة نذكر منها على الخصـوص، إقصاء الجانب النفسي والاجتماعي والتاريخي من الدراسة الأدبية، واعتبارالنص الأدبي نسقا من العلاقات القائمة بين عناصره.

وهكذا أصبحنا نسمع، بين الفينة والآخرى، نداءات تصدر من هنا وهناك، يحاول أصحابها رسم حدود واضحة للنص الأدبي، باعتباره بنية مستقلة ومكتفية بذاتها، بعيدا عن كل ماهو خارج - نصي (extra - texte): (إن الأدب ليس بديلا عن علم الاجتماع أو السياسة، وهو يمتلك هدفه وتبريره الخاصين به)(9)، كما يقول رونيه ويليك وأوستين وارين، بل هناك من ذهب لماهو أبعد، فاقترح ضرورة قطع الصلة بين النص ومؤلفه كخطوة ضرورية أولى على طريق إقامة صرح علم الأدب: ( لأنه من غير الممكن الوصول لدراسة علمية للظواهر الأدبية إلا بشرط عدم طرح مسألة المؤلف، فهـي بالفعل غريبة جذريا عن الفكر العلمي )(10) كما يقول روجي فايول (R. Fayolle) .

كل هذه التحولات كانت نتيجة مباشرة وطبيعية، للخطوة الجريئة التي دشنها الشكلانيون الروس، وعمت أصداؤها لتشمل دراسة النصوص الحكائية، موضوع حديثنا حاليا، وللتدليل على ذلك يكفي التذكير بقيمة العمل الطلائعي الذي أنجزه الباحث الروسي، فلاديمير بروب (V. Propp) في هذا المجال، بعنوان (مورفولوجية الحكاية / la morphologie du conte) بوصفه أحد أفراد هذه الجماعة، والآفاق العلمية الرحبة التي فتحها في وجه دارسي هذا اللون التعبيري على الخصوص، يقول أحد الباحثين في هذا الصدد: ( إن المساهمة المركزية في مجال البحث الأدبي لا تتلخص في اكتشافه نموذجا عاما لتفسير القصص، وإنما في الأفق الذي أصبح ملموسا بعده، فلقد انفتح الطريق فجأة أمام بحث مستقل في المحكي يعتمد على وحداته الصغرى، وأصبح ذلك برهانا ساطعا على إمكانية استقلال علم الأدب، ذلك العلم الذي خامر الشكلانيين الروس في أوائل  القرن الماضي، ولازال يشغل بال الإنشائيين المعاصرين)(11).

وهكذا وبفضل أعمال بروب وجماعة الشكلانيين الروس، أصبحت دراسة النصوص الحكائيـة ( اللامتناهية /infini )، على حد تعبير بارث (R. Barthes)، نظرا لأن : ( المحكي حاضر في كل الأزمنة، وفي كل الأمكنة، وفي كل المجتمعات)(12). لاتشكل عائقا في وجه الدارسين نظـرا لأن أمرها لايخرج عن احتمالين اثنين :

الأول : ينطلق من الرأي القائل بأن المحكي عبارة عن نقل لأحداث ووقائع لايمكن الحديث عنه دون إرجاعه لعبقرية الراوي (le conteur) الكاتب، وهو رأي يسعى كماهو واضح لإعطاء تفسيرات أسطورية تقوم  أساسا على اعتبار ( صدفوي / aléatoire)(13) معقد جدا، بعيدا عن كل معيار علمي موضوعي .

أمـا الثاني : فينطلق من الفرضية القائلة بأن كل محكي إلا وله قواعد بنيوية مشتركة توحده بباقي المحكيات الأخرى، بحيث لا أحد يمكنه خلق حكاية دون الاعتماد على نسق ضمني من المكونات والقواعد، وهـو رأي وصفه بارث بكونه ( تركيبي/ combinatoire)(14) بسيط جدا بالمقارنة للسابق.

على أننا إذا كنا مقتنعين بوجاهة الاحتمال الأخير وعلميته، فإن السؤال الذي يفرض نفسه في هذه الحالة، يتعلق بأين وكيف ينبغي البحـث عن هذه البنية أو القواعد المشتركة التي يمكن أن نرجع إليها كل هذا الركام الهائل واللامتناهي من النصوص الحكائية؟. قد يبدو الجواب عن هذا السؤال للبعض سهلا، وقد يذهب البعض الآخر لما هو أبعد، فيطعن في مشروعية طرحه من الأساس، مادام متيقنا من أن البحث عن هذه البنية يجب أن ينطلق، طبعا، من داخل المحكي ذاته دون سواه، غير أن المجيب في هذه الحالة ينسى أو يتناسى أننا لسنا أمام حكاية واحدة، بقدرما نواجه كما لاحصر له من الحكايات، فكيف يمكننا والحالة هذه تجاوز هذا العائق والوصول، بالتالي ، للبنية السردية المشتركة والموحدة بين جميع هذه النصوص الحكائية المتناثرة هنا وهناك، مكانيا وزمنيا ؟.

إن هذا التساؤل يدفعنا في العمق لممارسة عملية اختيار، حاسمة وضرورية، بين منهجين متناقضين لتجاوز هذا الإشكال :

الأول : استقرائي (la méthode inductive)(15) يستوجب التعامل مع جميع الحكايات، الواحدة تلو الأخرى ، متناسيا أننا نتعامل مع متن ضخم من ناحية، ومتنام على مر العصور من ناحية أخرى.

والثاني : اسقاطي (la méthode déductive)(16) ينطلق من نموذج بنيوي تقريبي مسبق، يخضع بعد ذلك للتشذيب بهدف جعله مطابقا لمجموع الحكايات الخاصة التي نواجهها، تماما كما فعلت اللسانيات في دراستها للغات، فأيهما نختار؟ وبتعبير أصح، أيهما أسعف إجرائيا من الآخر ؟

لعل التعليق الذي أورده بارث (R. Barthes) بخصوص طموح دعاة المنهج الأول يعفينا من مسؤولية الإجابة عن هذا السؤال، ويعكس ضمنيا، في الوقت نفسه،  موقفنا من هذا الاختيار، يقول : ( فهم يطالبون بإقدام أن نطبق على المحكي منهجا استقرائيا محضا، وأن نبدأ بدراسة مجموع حكايات كل نوع، كل حقبة، كل مجتمع، لننتقل بعد ذلك لرسم نموذج عام .

إن هذه النظرة وهمية على حسن نيتها، فاللسانيات ذاتها التي ليس عليها أن توثق سوى لثلاثة آلاف لغة فقط، لم تصل لذلك، واكتفت بأن تكون إسقاطية، ومنذ ذلك اليوم تمكنت من تأسيس نفسها حقا، وتقدمت بخطى عملاقة، متمكنة أيضا من تصور حالات لم يتم بعد اكتشافها، فماذا يمكن القول عن التحليل السردي الذي يوجد في مواجهة ملايين النصوص؟ إنه محكوم بالقوة على اتباع المسطرة الاسقاطية، ومجبر على تصور نموذج افتراضي أولا للوصف( يسميه اللسانيون الأمريكيون ب – نظرية /  théorie-) ثم الانحدار بعد ذلك شيئا فشيئا، انطلاقا من هذا النموذج نحو الأصناف(les éspéces) التي تماثله أوتخالفه في نفس الوقت، فعلى مستوى هذه المطابقات وحدها، وعبر هذه الانزياحات التي سنصادفها، نتمكن إذن من إقامة أداة فريدة لوصف تعددية الحكايات وتنوعها التاريخي، الجغرافي والثقافي، فلوصف وتصنيف لانهائية الحكايات يجب إذن وضع نظرية (théorie) بالمعنى التداولي الذي أتينا على ذكره)(17).

وبذلك يتضح أن الخطوة الأولى التي يجب الانكباب على دراستها، حسب بارث دائما، تتمثل في وضع الخطوط العريضة لهذا النموذج (النظرية) ذي الطابع المجرد قبل أي شيء آخر، ولتسهيل هذه المهمة يقترح علينا نفس الباحث الاستعانة باللسانيات، مادام بإمكانها تزويدنا بما يلزم من المصطلحات والمفاهيم الضرورية في الموضوع، نظرا للعلاقة المتينة التي تربطها بالأدب، فكلاهما يتخذ، كما هو معلوم، من اللغة مادة وموضوعا : (في الوضعية الراهنة للبحث يبدو معقولا اتخاذ اللسانيات ذاتها كنموذج أساسي للتحليل البنيوي للحكاية)(18). إلا أنه إذا كان من المسلم به تقريبا، أن دراسة المحكي يجب أن تقوم على أساس لساني، نظرا للاعتبارات السالفة، فإن هناك مع ذلك عائقا يحول دون تطبيق الباحث لهذا المبدأ، يتمثل في الحدود القصوى الموضوعة للسانيات كعلم يختص بدراسة اللغة : ( فمن المعروف أن اللسانيات تقف عند الجملة، وهي آخر وحدة تقدر أن لها الحق في الاهتمام بها)(19)، وبذلك يصبح المحكي خارج نطاق اختصاصها، مما يستوجب البحث عن لسانيات أخرى تدخل في اعتبارها ما أسقطته الأولى، وتعنى بالتالي بدراسة الخطاب بشكل عام، بما فيه طبعا الخطاب السردي موضوع حديثنا حاليا.

وهكذا، فإذا كانت اللسانيات الجديدة المختصة بدراسة الخطاب لم تؤسس بعد، فإنها توجد، مع ذلك، بشكل افتراضي ضمني على الأقل، في وعي اللسانيين أنفسهم، كفرع معرفي ينبغي إيجاده، إن لم نقل، إنه موجود بالقوة بحكم العلاقة المتينة القائمة بين الجملة والخطاب، باعتبارهما معا يتشكلان من اللغة، صحيح أنه توجد بين الخطاب والجملة رغم ذلك اختلافات أساسية، لعل أبسطها ما عبر عنه بارث نفسه حين قال : ( بنيويا القصة مساهمة للجملة، إلا أنها لايمكن أن تختزل لمجموعة من الجمل)(20)، وهو نفس الرأي، تقريبا، الذي أشار إليه الباحث السيميائي الفرنسي كريماص (Greimas) في معرض مقارنته بين النص السردي والجملة، في المقدمة الهامة التي وضعها لكتاب جوزيف كورتيس (J. Courtés) (مدخل للسيميائية السردية والخطابية) حيث قال : ( الخطاب على عكس الجملة المعزولة يمتلك ذاكرة (une mémoire)(21).

إلا أن هذا مع ذلك ينبغي ألا ينسينا ما يمكن أن يوجد بينهما من روابط وتماثلات تسمح للدارس باتخاذ الجملة بمصطلحاتها ومفاهيمها وقواعدها التركيبية لبنة أساسية أولى في مشروع إقامة صرح اللسانيات  الجديدة، وبالتالي فتح آفاق واسعة لتحليل الخطاب، خصوصا ونحن نعلم أن هناك تنظيما شكليا واحدا يؤطر كل الأنساق السيميائية على اختلاف أصنافها وأحجامها، وهو ما يسمح باعتبار: ( الخطاب ... - جملة - كبيرة - حيث الوحدات لن تكون بالضرورة جملا - مثلما أن الجملة، عن طريق تمايزات معينة، تصبح - خطابا – صغيرا)(22).

انطلاقا من هذه الفرضية - المشروعة - للعلاقة بين الجملة والخطاب من ناحية، واعتبارا لما يجمع الخطاب والمحكي من ناحية أخرى، يمكننا استخلاص فرضية ثانية مفادها أن : ( المحكي جملة كبيرة)(23). مما يسمح بتمرير كل ما يتعلق بلسانيات الجملة - الصغيرة -، من مفاهيم وتصورات، للسانيات الجملة - الكبيرة - ( الخطاب). وبذلك تحل إشكالية إيجاد نحو (une grammaire ) للمحكي، على شاكلة ماهو موجود بالنسبة للجملة من جهة، وتوطد، بالتالي، علاقة الأدب بمادة اشتغاله (اللغة) من جهة أخرى، وهذا ما حاول رولان بارت التأكيد عليه حين قال : ( قد نجد بالفعل في المحكي بتضخيمات وتحويلات تناسب حجمه، المستويات الأساسية للفعل، من أزمنة، مظاهر، صيغ، وضمائر)(24).

فماذا استفادت الدراسة السردية عامة والروائية خاصة من ارتباطها باللسانيات؟

إن أول ما منحته اللسانيات للتحليل البنيوي للمحكي هو المفهوم الإجرائي الحاسم والأساسي القائل بأن أهم خطوة تحدد فهمنا لأي نسق(بنية)، كيفما كان، هي معرفتنا بكيفية تنظيم عناصره، وتحديد نوعية العلاقات المقامة فيما بينها، بدون ذلك لايمكن، بأي حال من الأحوال، تفكيكه أو استخراج معناه، الأمر الذي يسمح لنا، مبدئيا، بتغيير تصورنا المبسط للمحكـي كتراكم جمل، بتصور بنيوي شامل ومتكامل، يحدد المكونات، ويضبط العلاقات اعتمادا على المفهوم اللساني المعروف بمستويات الوصف (les niveaux de déscription)، بحيث إنه إذا كانت الجملة، مثلا، توصف لسانيا على مستويات متعددة ( الصوتي – المعجمي – التركيبي والتداولي) تقيم فيما بينها ما يسميه بارت بعلاقة تراتبية (rapport hiérarchique). يتجلى ذلك، بشكل واضح، في كون المستويات السابقة للجملة، بالرغم من أن كلا منها يتوفر على عناصره الخاصة التي تستوجب وصفا خاصا بها، في استقلال تام عن باقي عناصر المستويات الأخرى، فإنه لايمكن، مع ذلك، لأي مستوى وحده خلق المعنى، فضلا عن كونه لايكتسب معناه الخاص إلا مدمجا في مستوى أعلى منه : ( كل وحدة تنتمي لمستوى معين، لاتكتسب معنى، إلا عندما تتمكن من الاندماج في مستوى أعلى: فالفونيم رغم أنه موصوف في ذاته، فهو لايعني شيئا، ولايشارك في المعنى إلا مدمجا في كلمة، والكلمة نفسها يجب دمجها في جملة، إن نظريةالمستويات – كمـا أعلن عنها بنفنيست / Benvéniste - تمنح صنفين اثنين من العلاقات :

توزيعية (distributionnelles): إذا كانت العلاقات متموضعة على نفس المستوى.

واندماجية (intégratives) : إذا كان التداخل من مستوى لآخر، وينتج عن هذا أن العلاقات التوزيعية وحدها لاتكفي لإدراك المعنى، وللقيام بتحليل بنيوي يجب إذن، أولا تمييز العديد من المستويات - .... -، ووضع هذه المستويات ضمن منظور تراتبي اندماجي - intégratoire -)(25).

وهي نفس القناعة تقريبا التي انتهى إليها جل واضعي نظرية السرد الغربيين، على اختلاف مشاربهم، وتنوع المصطلحات التي استعملوها للتعبير عنها، كما سنرى ذلك لاحقا.

وهكذا، فإذا ماأخذنا تودوروف (Todorov)، على سبيل المثال لا الحصر، سنرى أنه يحدد مستويات دراسة المحكي في العناصر التالية : (اقترح الاشتغال على مستويين كبيرين اثنين قابلين بدورهما للتقسيم :

- الحكاية (l’histoire) : وتتكون من منطق للأعمال، و - تركيب - للشخصيات.

- والخطاب (le discours) : ويتضمن الأزمنة ، المظاهر ، والصيغ المتعلقة بالحكي)(26). الأمر الذي يدفعنا مبدئيا للقول بأن قراءة المحكي وفهمـه لاتعني، بأي حال من الأحوال، الانتقال من كلمة لأخرى على المستوى الأفقي فقط، وإنما هي، بالإضافة لذلك، انتقال عمودي من مستوى لآخر أيضا.

وبالمناسبة تجدر الإشارة إلى أن مسألة التنبيه لمستويات المحكي ليست من اكتشاف بارث أو تودوروف، وإن كان لهما فضل إدخال بعض الدقة والتوضيح عليها، وإنما هي من وضع الشكلانيين الروس، في شخص توماشوفسكي، باعتباره أول من أثار انتباه الباحثين لضرورة التمييز داخل النص الحكائي بين عنصرين اثنين مختلفين ومتكاملين في نفس الوقت، هما: المتن الحكائي والمبني الحكائي ( sujet/ fable)(*). وهو ما يقابل التمييز اللساني الحالي في الكلام بين مستويين متباينين ومتداخلين هما : ( الملفوظ والتلفظ (énoncé / énonciation)، على أن ما يدعم مصداقية هذا التمييز في المحكي بين الحكاية والخطاب ما نراه، في الغالب، من إمكانيات لاحصر لها لتبليغ الحكاية الواحدة، كموضوع للحكي، بوسائل تعبيرية مختلفة ومتنوعة، دون أن يؤثر ذلك في شيء على الحكاية / المادة التي تظل، رغم ذلك، محافظة، في جميع الحالات، على جوهرها: ( فالقصة يمكن أن تحكى بألف طريقة، وبوسائل تقنية جد مختلفة، وبمواد متنوعة، فالمحكي ذاته يمكن أن يتخذ موضوع لوحة، فيلم (...) أو أيضا وكماهو الحال الآن موضوع رواية (...) وبكلمة واحدة، التمظهرات يمكن أن تتنوع، غير أن المحكي ما فوق اللساني (translinguistique) يظل منطقيا سابقا، وله الحق في تجليه الخاص)(27). وهو نفس الرأي الذي عبر عنه كلود بريمون (C. Brémond) حين قال: (بنية القصة مستقلة عن التقنيات التي تتولى تأديتها، إذ يسهل نقلها من واحدة لأخرى، دون أن تفقد شيئا من خصائصها الجوهرية)(28).

وكيفما كان الأمر، فإنه لابد من الإشارة لمسألة هامة وأساسية تتعلق بالطبيعة الإجرائية لهذا التصنيف، بحيث لاينبغي أن يؤخذ على أساس كونه حقيقة فعلية قائمة على مستوى الواقع، ذلك أنه وكما قال أحد المنظرين مؤكدا على العلاقة التلازمية بين هذين المستويين : (السرد والحكاية المتخيلة مفهومان متلازمان، فلاقصة متخيلة بدون سرد، ولاسرد بدون قصة متخيلة)(29).

و بذلك يتأكد بالملموس الدور الهام الذي قامت به لسانيات الجملة في قيام لسانيات الخطاب عامة، و لسانيات الخطاب السردي على وجه التحديد، مما ساهم بكل كبير في كشف الكثير من الغموض الذي كان يلف ، إلى وقت قريب بعض جوانب هذا الخطاب ، و ينعكس سلبا على قيمة المقاربات النقدية المواكبة له.

 

 


 

+) نص العرض الذي شاركت به في ندوة التواصل و تحليل الخطاب المنظمة من قبل ماستر يحمل نفس الإسم بكلية الآداب و العلوم الإنسانية التابعة لجامعة ابن طفيل بالقنيطرة يومي : 15/16 مارس 2011.


 

 


 

 

بيان الهوامش والإحالات

 

 

(1) ميخائيل باختين : الملحمة والرواية، ترجمة: د.جمال شحيد، سلسلة كتاب الفكر العربي، ع: 3، معهد الانماء العربي، الطبعة الأولى 1982، ص : 20.

(2) - B. Valette : Esthétique du roman moderne, éd : Nathan , p : 8.

(3) - V. Valette : Op , Cit , p : 7.                                                                                      

(4)  - Michel Raimond : Le Roman , Armand colin , p : 19.

(5) رونيه ويليك وأوستين وارين : نظرية الأدب، ترجمة : محيي الدين صبحي، مراجعة: د.حسام الخطيب، المؤسسة العربية للدراسات والطبع، الطبعة الثانية، 1981، ص : 244.

(6) - B. Valette : Op, Cit , p : 5.

(7) الشكلانيون الروس : نظرية المنهج الشكلي، ترجمة : ابراهيم الخطيب، مؤسسة الابحاث العربية، الطبعة الأولى، 1982، ص : 35.

(8) الشكلانيون الروس : مرجع مذكور، ص : 35.

(9) رونيه ويليك، وأوستين وارين : مرجع مذكور، ص : 144.

(10)- R. Fayolle : La critique, éd :  armand colin , 1978, p : 206.

(11) إبراهيم الخطيب، مقدمة ترجمة كتاب، فلاديمير بروب، مورفولوجية الخرافة، الشركة المغربية للناشرين المتحدين، 1986، ص : 11

(12- R.  Barthes  :  introduction  a  l’analyse  structurale  des  récit , in l’analyse

 structurale du récit, éd. Seuil, coll : points, 1981, p : 7.

(13) - R . Barthes : in , Op, Cit , 1981 , p : 8.

(14) - R. Barthes : in , Op, Cit , 1981 , p : 8.

(15)  - R. Barthes : in , Op, Cit , 1981 , p : 8.

(16)- R. Barthes: in , Op, Cit , 1981 , p:8.                                                                   

(17)- R. Barthes : in , Op, Cit , 1981 , p : 8.  

(18) - R. Barthes : in , Op, Cit , 1981 , p : 8-9.

(19)  - R. Barthes : in , Op, Cit , 1981 , p : 9.

(20) - R. Barthes : in , Op, Cit , 1981 , p : 10.

(21)- Greimas : Préface de l'introduction à la sémiotique narrative et discursive, éd.

Hachette université, 1976, p : 19.

(22)  - R. Barthes : in , Op, Cit , 1981 , p : 9

(23)  - R. Barthes : in , Op, Cit , 1981 , p : 10

(24) - R. Barthes : in , Op, Cit , 1981 , p :10

(25) - R. Barthes : in , Op, Cit , 1981 , p : 25

(26) -  R . Barthes : in , Op, Cit , 1981 , p : 11.

(*) للمزيد من التوسع بخصوص هذه المسألة يمكن الرجوع لكتاب الشكلانيين الروس، نظرية المنهج الشكلي، ترجمة : إبراهيم الخطيب.

(27) – Jean François Halté – André petitjean : pratiqué du récit, C.E.D.I.C. textes et

   non textes, 1977, p : 116-117.

(28) جان ريكاردو : قضايا الرواية الجديدة، ترجمة : صياح جهيم، وزارة الثقافة والارشاد القومي، دمشق ، ص : 121.

(29) – Jean François Halté – André petitjean : Op, Cit, 1977, p.89.