CSS Menus Samples Css3Menu.com

 

 

 


 

ابن خلدون و نقد النقد .. المقدمة نموذجا

 

د. عبد العالي بوطيب

 

يشكل موضوع (نقد النقد) خاصة، و(نقد الأفكار) عامة، مرتكزا أساسيا في بناء صرح الفكر الخلدوني، مادام العلامة لا يكتفي، كما هو معلوم، بالنقل الحرفي لمختلف الآراء والأفكار، وإنما يحللها ويناقشها، ليخلص في النهاية لاتخاذ موقف (مواقف) شخصية منها، كما يتضح ذلك جليا من مجمل القضايا التي تناولها (تاريخ/أدب/نقد/ لغة/سياسة/اجتماع إلخ)، وما مواقفه الصريحة من آراء بعض المؤرخين، كالمسعودي، وغيره، سوى دليل قاطع على ذلك. ومع ذلك كله، لم يحض هذا الموضوع، على قيمته، بالمتابعة العلمية اللازمة، مقارنة بموضوعات أخرى لا يقل عنها أهمية، ربما لحضوره الضمني في المتن الخلدوني، أو لابتعاده النسبي عن أطروحته المركزية في العمران البشري. ولعل هذا ما يعطي قيمة معرفية خاصة لهذه الدراسة، ويجعلها رائدة في تناول موضوع خلدوني هام. ظل لسنوات خارج دائرة اهتمام الباحثين. ولبلوغ هذه الغاية، ارتأينا معالجة الموضوع منهجيا على مراحل ثلاث، انفردت كل واحدة منها بمعالجة جانب من جوانب الموضوع العام. وهكذا خصصنا المرحلة الأولى لتحديد المفاهيم الإجرائية، والثانية لتطبيقاتها على المتن الخلدوني المدروس، ممثلا في (المقدمة) كنموذج، أما الثالثة فعبارة عن خاتمة عامة حاولنا فيها إجمال مختلف الخلاصات التي انتهت إليها الدراسة.

 1) مدخل لتحديد المفاهيم: الكتابة فعالية فكرية خلاقة يقوم بها كاتب، تعطي نتاجا فكريا من الدرجة الأولى، نسميه في مجال حديثنا أدبا. أما القراءة ففعالية بعدية مبنية على الأولى موكولة للقارئ، قابلة بدورها للتحول لكتابة من الدرجة الثانية للنص المقروء، إذا ما توفرت لدى القارئ طبعا الرغبة والإرادة الضروريتين، وذلك في إطار ما يعرف بمبدأ التعالق الجدلي القائم بين هاتين الفعاليتين المترابطتين، حيث تفضي الأولى للثانية والثانية للأولى في سيرورة وثيقة لا متناهية، تماما كما أشار لذلك بارت في معرض حديثه عن النقد، قائلا: (الانتقال من القراءة إلى النقد معناه تغيير الشهوة، بحيث لا نعود نشتهي الأثر الأدبي، وإنما لغتنا الخاصة، لكن من هنا أيضا نعيد الأثر إلى شهوة الكتابة التي صدر عنها، هكذا يلف الكلام حول الكتابة، القراءة / الكتابة، من شهوة إلى أخرى، يذهب كل أدب، كم كاتب لم يكتب إلا لأنه قرأ، وكم ناقد لم يقرأ إلا ليكتب)(1). قولة بقدر ما تؤكد العلاقة التلازمية الوثيقة القائمة بين هاتين الفعاليتين (القراءة / الكتابة)، بقدر ما تشدد في الوقت ذاته على الضوابط المعرفية الضرورية لقيام هذا التعالق / الانتقال، مما يمكن اعتباره أيضا معايير موضوعية لتحديد مفهومي القراءة والكتابة وتدقيقهما، وهكذا تصبح القراءة تعبيرا ضمنيا عن اكتفاء القارئ بشهوة النص المقروء، وزهده في تجاوزه أو استبداله بأي شيء آخر غيره، خلافا للكتابة التي تعبر صراحة عن رغبة القارئ القوية في تغيير شهوة النص المقروء واستبدالها بخطابه الخاص، لهذا اعتبرت دائما (كتابة فوق كتابة) أو (كتابة من الدرجة الثانية)، علما بأن هذا الانتقال من الشهوة الأولى للثانية، ومن حب المقروء الغيري للمكتوب الشخصي، لا يكتسي مشروعيته ومصداقيته الكاملتين إلا عن طريق فعل الإضافة، وما إليه من مظاهر تجاوز النص الثاني للأول، وإلا فقد مبرراته وتحول لمجرد استنساخ أو تشويه للنص المقروء، خصوصا إذا علمنا أن التقاطع الكتابي للخطابات والنصوص، يعد في العمق شكلا من أشكال الحوار المضني بين رأيين، أو أكثر، يفترض اختلافهما بخصوص القضية (أو القضايا) المعروض. وإلا اعتبر مجرد حوار مجاني بلا معنى ولا مصداقية. ولعل هذا ما دفع جيرار جنيت لتشبيه علاقة الكتابة الثانية بالأولى، في كتابه (طروس) (2) بعمليتي الهدم والبناء، والمحو والكتابة، بدونهما تفقد هذه الأخيرة كل مشروعيتها، لتتحول لمجرد كتابة بيضاء، أو استنساخ حرفي (سرقة) للنص المقروء، يعكس، في العمق، تمسك صاحبها (القارئ) الأعمى بشهوة النص المقروء، ولو على حساب الأمانة العلمية. هذا المفهوم العام للكتابة والمكتوب في علاقتهما بالقراءة والمقروء، يفيدنا حتما في مراجعة تصوراتنا السابقة عن هاتين الممارستين الخلاقتين من ناحيتين. الأولى: على المستوى الأفقي: في توسيع مفهوم الكتابة وتمديده ليشمل مختلف المجالات المعرفية. الأخرى، أدبية كانت أو غير أدبية، وهكذا يمكن الحديث مثلا عن: كتابة فوق كتابة في المجال الإبداعي (أدب فوق أدب). كتابة فوق كتابة في المجال النقدي (نقد فوق أدب). كتابة فوق كتابة في مجال نقد النقد (نقد فوق نقد). وهو موضوع حديثنا في هذه الورقة. ثانيا: على المستوى العمودي: في تغيير مفهومنا البسيط التقليدي للكتابة، كممارسة خطية مسطحة، لا عمق فيها ولا تضاريس، بمفهوم علمي جديد، أكثر عمقا، يعتبر الكتابة فضاء متشعب التضاريس متعدد المستويات، مما يفسر استعمال النقاد الحداثيين لعبارات جديدة قوامها الحفر والغوص في طبقات النص وسبر أغوره وخباياه، وما الحديث عن مستويات النصوص، السطحية منها والعميقة، سوى دليل قاطع على ذلك. وبناء على ما سبق، يمكننا التساؤل عن كيفية تعامل ابن خلدون مع آراء النقاد السابقين وقراءته لها في محاولة لتحديد ما إذا كان قد اكتفى باستنساخها وترديدها، أم أنه قرأها قراءة نقدية فاحصة، من شأنها تطوير السابق وتصحيحه، على أنه إذا كان الأمر كذلك، فأين يتجلى هذا، وما حجم هذه الإضافة النقدية التي يقدمها في (مقدمته) ذلك ما سنحاول الإجابة عنه في القسم الثاني من هذه الدراسة.

2) العرض ومحاولة تطبيق المفاهيم : إذا قرأنا (مقدمة) ابن خلدون، في ضوء المفاهيم الإجرائية المشار إليها سابقا في المدخل النظري التمهيدي، نلاحظ، بسهولة، ما تحتويه من ثراء معرفي كبير، يعكس دون شك موسوعية صاحبه، وتعدد مصادره وتنوعها (تاريخ / فلسفة / لغويات / أدب / نقد / تصوف... إلخ). غير أنه إذا كان ابن خلدون يكشف أحيانا قليلة صراحة عناوين بعضها وأسماء مؤلفيها (الاصفهاني / ابن شيق / الجاحظ/ الجرجاني / السكاكي / ارسطو، الخ) مثلا، فإنه بالمقابل يضمر أغلبها أحيانا كثيرة أخرى، حيث يكتفي باستحضار الافكار ومناقشتها دون تحديد مصادرها أو ذكر أسماء مؤليفها كما حدث مع آخرين. مما يتطلب بذل مجهود فكري مضاعف لضبطها وحصر مضانها وكيفية تعامل صاحبنا معها خصوصا إذا علمنا أن ابن خلدون لا يكتفي ككل العلماء الكبار باجترار أفكار سابقيه فقط، وإنما يرفقها غالبا، بمناقشات نقدية عميقة ضافية، تعكس وجهة نظره الخاصة من مختلف هذه القضايا، كما سنبين ذلك لاحقا، من خلال قضية (الاسلام والشعر) على سبيل المثال لا الحصر. ولأن ابن خلدون في كل ذلك يستعرض آراء نقاد سابقين محددين وغير محددين من هذه القضايا النقدية العامة، ويناقشها، فإن خطابه يعتبر بالضرورة من وجهة نظرنا الخاصة على الأقل (نقدا من الدرجة الثانية) أو ما يمكن تسميته ببساطة (بنقد النقد)، ومن هنا جاء عنوان هذه المداخلة وموضوعها، فكيف تعامل ابن خلدون مع هذه النصوص النقدية السابقة ؟ وما موقفه منها؟ وما البوصلة الموجهة لهذا الموقف؟ وبعبارة واحدة مباشرة وبسيطة كيف كان مفهومه للكتابة الثانية في علاقتها بالاولى؟ ومن خلالها للقراءة كشرط تمهيدي ضروري لتغيير الشهوة على حد تعبير رولان بارت؟ للاجابة عن هذه الاسئلة سنعتمد طريقتين مختلفتين ومتكاملتين فرضتهما علينا (المقدمة) طبعا، أولاهما نظرية صريحة مباشرة والثانية تطبيقية ضمنية غير مباشرة ننتهي منهما بخلاصات عامة تشكل في مجموعها خاتمة هذا العرض. أما الطريقة النظرية المباشرة فتتعلق بفصل طريف من فصول (المقدمة) يحمل عنوان (المقاصد التي ينبغي اعتمادها في التأليف وإلغاء سواها) يستعرض فيه ابن خلدون بشكل صريح تصوره الخاص للكتابة، والمبررات المعرفية السبعة لضمان مشروعيتها يقول: (ثم إن الناس حصروا مقاصد التأليف التي ينبغي اعتمادها وإلغاء ما سواها فعدوها سبعة. أولها، استنباط العلم بموضوعه وتقديم أبوابه وفصوله، وتتبع مسائله أو استنباط مسائل ومباحث تعرض للعالم المحققيحرص على إيصالها لغيره لتعم المنفعة به، فيودع ذلك بالكتاب في الصحف لعل المتأخر يظهر على تلك الفائدة، كما وقع في أصول الفقه، تكلم الشافعي أولا في الأدلة الشرعية اللفظية ولخصها، ثم جاء الحنفية فاستنبطوا مسائل القياس واستوعبوها وانتفع بذلك من بعدهم إلى الأبد. وثانيها أن يقف على كلام الأولين وتواليفهم فيجدها مستغلقة على الإفهام ويفتح الله له في فهمها فيحرص على إبانة ذلك لغيره ممن عساه يستغلق عليه، لتصل الفائدة لمستحقها وهذه طريقة البيان لكتب المعقول والمنقول وهو فصل شريف. وثالثها أن يعثر المتأخر على خلط أو خطأ في كلام المتقدمين ممن اشتهر فضله وبعد في الإفادة صيته، ويستوثق من ذلك البرهان الواضح الذي لا مدخل للشك فيه ويحرص على إيصال ذلك لمن بعده، إذ تعذر محوه ونزعه بانتشار التأليف في الآفاق والأمصار وشهرة المؤلف ووثوق الناس بمعارفه، فيودع ذلك الكتاب، ليقف الناظر على بيان ذلك. ورابعها أن يكون الفن الواحد قد نقصت منه مسائل أو فصول بحسب انقسام موضوعه فيقصد المطلع على ذلك أن يتمم ما نقص من تلك المسائل، ليكمل الفن بكمال مسائله وفصوله، ولا يبقى للنقص فيه مجال. وخامسها، أن تكون مسائل العلم قد وقعت غير مرتبة في أبوابها ولا منتظمة فيقصد المطلع على ذلك أن يرتبها ويهديها، ويجعل كل مسألة في بابها كما وقع في (المدونة) من رواية سحنون عن ابن القاسم، وفي (العتبية)) من رواية العتبي عن أصحاب مالك، فإن مسائل كثيرة من أبواب الفقه منها قد وقعت في غير بابها، فهذب ابن أبي زيد (المدونة) وبقيت (العتبية) غير مهذبة فنجد في كل باب مسائل من غيره واستغنوا بالمدونة وما فعله ابن أبي زيد فيها وبالبرادعي من بعده. وسادسها، أن تكون مسائل العلم مفرقة في أبوابها من علوم أخرى فينتبه بعض الفضلاء إلى موضوع ذلك الفن وجمع مسائله فيفعل ذلك ويظهر به فن ينظمه في جملة العلوم التي ينتحلها البشر بأفكارهم، كما وقع في علم البيان، فإن عبد القاهر الجرجاني وأبا يوسف السكاكي وجدا مسائله متفرقة في كتب النحو، وقد جمع منها الجاحظ في كتاب (البيان والتبيين) مسائل كثيرة تنبه الناس فيها لموضوع ذلك العلم، وانفراده عن سائر العلوم، فكتبت في ذلك تواليفهم المشهورة وصارت أصولا لفن البيان ولقنها المتأخرون فأربوا فيها على كل متقدم. وسابعها، أن يكون الشيء من التواليف التي هي أمهات للفنون مطولا مسهبا فيقصد بالتأليف تلخيص ذلك بالاختصار والإيجار المتكرر أن وقع مع الحذر من حذف الضروري لئلا يخل بمقصد المؤلف الأول. فهذه جماع المقاصد التي ينبغي اعتمادها بالتأليف ومراعاتها وما سوى ذلك ففعل غير محتاج إليه، وخطأ على الجادة التي يتعين سلوكها في نظر العقلاء، مثل انتحال ما تقدم لغيره من التواليف بأن ينسبه إلى نفسه ببعض تلبيس من تبديل الألفاظ وتقديم المتأخر وعكسه أو بحذف ما يحتاج في الفن. أو يأتي بما لا يحتاج إليه، أو يبدل الصواب بالخطأ أو يأتي بما لا فائدة فيه، فهذا شأن الجهل والقحة ولذا قال أرسطو لما عدد هذه المقاصد وانتهى إلى آخرها فقال، وما سوى ذلك ففضل أو شره يعني بذلك الجهل والقحة نعوذ بالله من العمل فيما لا ينبغي للعاقل سلوكه والله يهدي للتي هي أقوام (3) بقراءتنا لهذا الفصل / المفتاح الذي يقوم مقام المقدمة النظرية أو الخطاب الميتا نصي يظهر جليا، بما لا يدع مجالا للشك مدى وعي صاحبه بأهمية الكتابة وشروط مشروعيتها كخطاب من الدرجة الثانية، يفترض فيه أن يشكل إضافة معرفية نوعية للكتابة الأولى تتجاوز مجرد الاستنساخ والاجترار لأن ذلك (فعل غير محتاج إليه وخطأ عن الجادة التي يتعين سلوكها في نظر العقلاء (4) و بالتالي مفهومه الضمني للقراءة كفعالية تمهيدية منتجة ينبغي أن تقيم مسافة معينة مع النص المقروء تمكنها من تفادي الوقوع في حباله والتماهي كليا معه. غير أنه إذا كان هذا هو رأي ابن خلدون الصريح والمباشر في هاتين الفعاليتين وهو للإشارة يتماشى إلى حد كبير مع ما سبق أن حددناه في المدخل العام السابق لهذه الدراسة، فإن السؤال الذي يفرض نفسه والحالة هذه هو إلى أي درجة التزم ابن خلدون بهذين المفهومين على المستوى التطبيقي من خلال تعامله مع بعض الآراء النقدية السابقة، خصوصا إذا علمنا أن هاته التصريحات النظرية المباشرة ونظيراتها تعد مجردتعبير عن نوايا، وبالتالي لا تكتسب مصداقيتها التوثيقية إلا من خلال اقترانها بالفعل، لذلك وجب التعامل معها بكثير من الحيطة والحذر. وذلك ما سنحاول القيام به الآن على المستوى التطبيقي غير المباشرة، حيث سنحاول اختبار مدى التزام ابن خلدون بمفهوميه النظريين السابقين، عن الكتابة والقراءة من خلال تقدير حجم اشتغال كتابته اللاحقة في (المقدمة) على كتابات سابقيه (مراجعه ومصادره) بخصوص بعض القضايا النقدية الشائكة العامة، كقضية (الإسلام والشعر) على سبيل المثال لا الحصر. قضية الإسلام والشعر يكاد يجمع الباحثون على أن الشعر في الفترة الإسلامية الأولى أصابه الضعف والوهن، من الناحيتين الكمية والكيفية، لأسباب عديدة اختلفوا في تحديدها (ضياع الشعر، كثرة الانتحال، تغيير القيم الجاهلية، انبهار المسلمين بإعجاز القرآن، سوء فهم المسلمين لموقف الإسلام من الشعر، الحرب وموت الكثير من حفظة الشعر ورواته.. الخ موقف يمكن ملامسته ضمنيا من خلال قرائن عديدة نذكر منها، على سبيل المثال، لا الحصر: أقوال نقدية يستشف منها تفضيل أصحابها للشعر الجاهلي على الإسلامي، التصنيف التراتبي للشعراء في طبقات، يتصدرها الشعراء الجاهليون، الاستشهاد بالشعر الجاهلي أولا، مباشرة بعد القرآن والحديث، قبل الشعر الإسلامي الاقتصار على رواية الشعر الجاهلي إذا أضفنا لذلك كله الأقوال النقدية العديدة التي يفضل أصحابها صراحة الشعراء الجاهليين على الإسلاميين، وشعر المرحلة الجاهلية على الإسلامية بالنسبة للشعراء المخضرمين، كما حصل مثلا لحسان بن ثابت، الذي قال فيه الأصمعي: (الشعر نكد بابه الشر، فإذا دخل في الخير ضعف، هذا حسان بن ثابت فحل من فحول الجاهلية، فلما جاء الإسلام سقط شعره) (5)إذا انتقلنا لفحص موقف ابن خلدون من هذه القضية، وعبرها من مجموع المصادر النقدية المعتمدة في (المقدمة) وجدناه يميز فيها بين ماهو كمي وماهو كيفي، وعليه ففي الوقت الذي يشاطر فيه النقاد السابقين قولهم بالضعف الكمي للشعر الاسلامي مقارنة بنظيره الجاهلي، لأسباب موضوعية عديدة يجملها في قوله: (أعلم أن الشعر كان ديوانا للعرب، وفيه علومهم وأخبارهم، ثم انصرف العرب عن ذلك أول الإسلام، بما شغلهم من أمور الدين والنبوة والوحي، وما أدهشهم من أسلوب القرآن ونظمه، فأخرسوا عن ذلك وسكتوا عن الخوض في النظم والنثر زمانا، ثم استقر ذلك وأونس الرشد في الملة، ولم ينزل الوحي في تحريم الشعر، وحظره، وسمعه النبي صلى الله عليه وسلم، وأثاب عليه، فرجعوا حينئذ إلى ديدنهم منه (6) فإنه، بالمقابل، يخالفهم الرأي فيما يخص الجانب الكيفي، على ما لهذا الأخير من أهمية قصوى في العملية الابداعية، حيث يجعل شعر الإسلاميين عامة، وشعر حسان خاصة، أجود من شعر الجاهليين، عكس ما يراه الأصمعي، يقول: (ويظهر لك من هذا الفصل وما تقرر فيه سر آخر، وهو إعطاء السبب في أن كلام الإسلاميين من العرب أعلى طبقة في البلاغة وأذوقها من كلام الجاهليين في منثورهم ومنظومهم، فإنا نجد شعر حسان بن ثابت، وعمر بن أبي ربيعة، والحطيئة، وجرير والفرزدق،، ثم كلام السلف من العرب في الدولة الأموية، وصدرا من الدولة العباسية، وفي خطبهم وترسيلهم ومحاوراتهم للملوك، أرفع طبقة من البلاغة من شعر النابغة وعنترة وابن كلثوم وزهير وعلقمة وطرفة، ومن كلام الجاهلية في منثورهم ومحاوراتهم والطبع السليم والذوق الصحيح شاهدان بذلك للناقد البصير بالبلاغة، والسبب في ذلك أن هؤلاء الذين أدركوا الإسلام سمعوا الطبقة العالية من الكلام في القرآن والحديث، اللذين عجزا البشر عن الإتيان بمثليهما، لكونها ولجت في قلوبهم، ونشأت في أساليبها نفوسهم، فنهضت طباعهم وارتقت ملكاتهم في البلاغة على ملكات من قبلهم من أهل الجاهلية ممن لم يسمع هذه الطبقة ولا نشأ عليها، فكان كلامهم في نظمهم ونثرهم أحسن ديباجة وأصفى رونقا من أولئك،، وتأمل ذلك يشهد لك به ذوقك، إن كنت من أهل الذوق والتبصر بالبلاغة، ولقد سألت يوما شيخنا الشريف أبا القاسم قاضي غرناطه لعهدنا، يوما، ما بال العرب الاسلاميين أعلى طبقة في البلاغة من الجاهليين؟ ولم يكن ليستنكر ذلك بذوقه، فسكت طويلا، ثم قال لي: والله ما أدري، فقلت أعرض عليك شيئا ظهر لي في ذلك، ولعله السبب فيه، فذكرت له هذا الذي كتبت، فسكت معجبا، ثم قال لي: يا فقيه، هذا كلام من حقه أن يكتب بالذهب، وكان من بعدها يؤثر محلي ويصيخ في مجالس التعليم الى قولي، ويشهد لي بالنباهة في العلوم، والله خلق الإنسان وعلمه البيان (7) وهو ما يدعم رأي ابن خلدون في صناعة الشعر، وحجم تأثرها بنوعية المقروء / المحفوظ، جودة ورداءة، بحيث يصعب تصور إبداع جيد مبني على محفوظ رديء أو العكس: (لأنه لابد من كثرة الحفظ لمن يروم تعلم اللسان العربي، وعلي قدر جودة المحفوظ وطبقته في جنسه، وكثرته من قلته تكون جودة الملكة الحاصلة عنه للحافظ، وللنفس في كل واحد منها لون تكيف به، وعلى حسب ما نشأت الملكة عليه من جودة أو رداءة تكون تلك الملكة في نفسها، فملكة البلاغة العالية الطبقة في جنسها، إنما تحصل بحفظ العالي في طبقته من الكلام، ولهذا كان الفقهاء وأهل العلوم كلهم قاصرين في البلاغة (8)، ويضيف قائلا: أخبرني صاحبنا الفاضل أبو القاسم بن رضوان كاتب العلامة بالدولة المرينية، قال: ذاكرت يوما صاحبنا أبا العباس بن شعيب كاتب السلطان أبي الحسن، وكان المقدم في البصرة باللسان لعهده، فأنشدته مطلع قصيدة ابن النحوي، ولم أنسبها له، وهو هذا: لم أدر حين وقفت بالأطلال ما الفرق بين جديدها والبالي فقال لي عن البديهة: هذا شعر فقيه، فقلت له، ومن أين لك ذلك/ قال من قوله (ما الفرق)، إذ هي من عبارات الفقهاء، وليست من أساليب كلام العرب، فقلت له: الله أبوك، إنه ابن النحوي (9)، علما بأن الكتاب والشعراء ليسوا كذلك لحسن تخيرهم في محفوظهم، ومخالطتهم كلام العرب وأساليبهم في الترسل، وانتقائهم الجيد منه، لذلك فلا غرابة إذا ما وجدنا ابن خلدون، وأمثاله من الفقهاء يكابدون مشقة كبرى في نظم الشعر، كما يعترف هو نفسه بذلك، قائلا: (ذاكرت يوما صاحبنا أبا عبد الله بن الخطيب، وزير الملوك بالأندلس من بني الاحمر، وكان الصدر المقدم في الشعر والكتابة، فقلت له: أجد استصعابا علي في نظم الشعر متى رمته، مع بصري به، وحفظي للجيد من الكلام من القرآن والحديث، وفنون من كلام العرب، وإن كان محفوظي قليلا، وإنما أتت، والله أعلم من قبل ما حصل في حفظي من الاشعار العلمية والقوانين التأليفية، فإني حفظت قصيدتي الشاطبي الكبرى والصغرى في القراءات وتدارست كتب التسهيل، وكثيرا من قوانين التعليم في المجالس، فامتلأ محفوظي من ذلك، وخدش وجه الملكة التي استعددت لها بمحفوظ جيد من القرآن والحديث وكلام العرب، فعاق القريحة عن بلوغها، فنظر إلي ساعة معجبا، ثم قال: لله أنت، وهل يقول هذا إلا مثلك (10)، مما يذكرنا بأهمية الرواية باعتبارها آلية أساسية من آليات تنمية ملكة صناعة الشعر و إجادته، ويفسر بالتالي سر تابع ص 2 تصنيفهم الشعراء لمراتب، يتصدرها الشاعر الراوية، وجعلهم رواية الشعر الجيد شرطا أساسيا للفحولة: (فقد سئل رؤبة بن العجاج عن الفحل من الشعراء، فقال هو: الراوية، يريد أنه إذا روى استفحل، وقال يونس بن حبيب: وإنما ذلك لأنه يجمع الى جيد شعره معرفة بجيد غيره، فلا يحمل نفسه إلا على بصيرة، ويقول الأصمعي: لا يصير الشاعر في قريض الشعر فحلا حتى يروي أشعار العرب، ويسمع الأخبار، ويعرف المعاني، وتدور في مسامعه الألفاظ) (11).

 3 - خاتمة وخلاصات: يتضح مما سبق وغيره، أن ابن خلدون لم يقف موقف المستهلك السلبي المنساق وراء الآراء النقدية المعتمدة في الموضوع، بل عمد لتفكيكها ومراجعتها، بهدف إبراز جوانبها الايجابية والسلبية، القوية والضعيفة، مما أعطى مؤلفه (المقدمة) قيمة معرفية إضافية ضافية، لا يمكن تجاوزها، ويؤكد بالتالي:

1) التزام ابن خلدون الحرفي بمفهومه الصريح السابق للكتابة، كإضافة معرفية، ورفضه المطلق للكتابة الاستنساخية البيضاء التي تجتر النص المقروء، ولا تضيف إليه شيئا.

2) احترام ابن خلدون لشروط ممارسة الكتابة، وضمان مصداقيتها.

 3) وقبل ذلك وبعده، وعي ابن خلدون العميق بأهمية دور القراءة المتبصرة في خلق الحوار الايجابي المنتج الضروري لتغيير شهوة القارىء للنص المقروء، واستبدالها بخطابه الخاص. علما بأن سر حوارية ابن خلدون المنتجة

هاته لمصادره ومراجعه النقدية والتاريخية، لا يعود، في تقديري، كما قد يظن للوهلة الأولى، لمؤهلاته الفكرية والمعرفية فقط، بقدر ما يعود أيضا للترابط المنطقي القوي القائم بين مختلف موضوعاته الفرعية منها والرئيسية، وخضوعها التام لتصور ناظم واحد يؤطر مجمل تفاصيلها، الكبيرة منها والصغيرة على حد سواء، وهذا ما يمكن ملامسته من خلال جانبين مختلفين ومتكاملين:

 الأول: درجة الانسجام الكبير الحاصل في كيفية قراءة ومعالجة ابن خلدون في (المقدمة) لمختلف القضايا النقدية المعروضة، بعيدا عن أي اضطراب أو تناقض من شأنه الإخلال بذلك أو الإساءة إليه،

 والثاني: الترابط القوي الحاصل بين مختلف هذه القضايا النقدية الفرعية في (المقدمة) والقضية المركزية، المتعلقة أساسا بالعمران البشري، مما يستحيل معه الفصل بينهما، دون الإخلال بوحدة الكتاب ككل. مما يدفعني للاعتقاد، دون مبالغة أو مجازفة، بأن قيمة عمل ابن خلدون، لا تنحصر فقط فيما يقدمه من آراء معرفية ضافية، على ما لها من أهمية كبيرة طبعا، وإنما في النسق المنطقي الناظم والمؤسس لها أيضا، ولعل هذا ما أنقذ موسوعية الرجل في (المقدمة) وغيرها من الصبغة العشوائية المبنية أساسا على التراكم الاستطرادي، المألوف في كتابات القدماء عموما، كما تجسدها أعمال الجاحظ على سبيل المثال لا الحصر، وجعلها ذات طبيعة منظمة، محكومة بضوابط منهجية ومعرفية ترتهن من جهة بخصوصية الموضوع وتشعباته المختلفة، ومن جهة أخرى بطريقته الخاصة في قراءتها ومعالجتها.

 

بيان الاحالات والهوامش:

 

 0) هذه الدراسة عبارة عن مساهمة في الندوة الدولية المنظمة من طرف المعهد العالي للغات، التابع لجامعة 7 نونبر بالقطر التونسي الشقيق، في موضوع: (مرجعيات ابن خلدون ومصادر تفكيره)، في الفترة الممتدة بين 15/13 ابريل 2006، بمناسبة الذكرى المئوية السادسة لوفاة العلامة.

 1) رولان بارت: النقد والحقيقة، ترجمة وتقديم: إبراهيم الخطيب، مراجعة: محمد برادة، الشركة المغربية للناشرين المتحدين، الطبعة الأولى: 1985، ص: 87/86. 2) انظر

3) ابن خلدون: المقدمة كتاب الشعب، تحقيق الدكتور: علي عبد الواحد وافي، القاهرة، ص: 500/498.

 4) ابن خلدون: مصدر مذكور، ص: 500

5) ابن قتيبة: الشعر والشعراء، الجزء الأول، دار الثقافة، بيروت ، 1964، ص: 224.

 0) انظر : يحيى الجبوري: الإسلام والشعر، منشورات مكتبة النهضة، بغداد، مطبعة الإرشاد، 1964.

 6)ابن خلدون: مصدر مذكور، ص: 547

7) ابن خلدون: مصدر مذكور، ص: 544/543

8) ابن خلدون: مصدر مذكور، ص: 542

9) ابن خلدون: مصدر مذكور، ص: 543

10) ابن خلدون: مصدر مذكور، ص: 543.

 11)ابن رشيق: العمدة في محاسن الشعر وآدابه ونقده، الجزء الأول، تحقيق: محمد محيي الدين عبد الحميد، دار الجيل، بيروت، لبنان، الطبعة الرابعة: 1972، ص: 197.