CSS Menus Samples Css3Menu.com

 

 

 


 

 

إشكالية المصطلح في النقد الروائي العربي

 

 

د. عبد العالي بوطيب

 

1/1 - لاشك أن المصطلح النقدي، بشكل عام، يعتبر عنصرا أساسيا من عناصر قيام نقد أدبي جاد وفعال في دراسة النصوص الإبداعية، وإبراز مقوماتها الفنية والفكرية، نظرا لما يلعبه من دور حاسم في ضبط المفاهيم وتوضيح الرؤى، ضمانا لموضوعية المقاربة النقدية من ناحية، وتيسيرا للتواصل الدقيق بين المهتمين والباحثين من ناحية أخرى.خصوصا والمصطلحات ، كما يعلم الجميع، كلمات اكتسبت في إطار تصورات نظرية محددة، دلالات مضبوطة، أصبحت معها محرومة من حق الانزياح المباح للكلمات العادية، تفاديا لكل ما من شانه التأثير سلبا على مهامها الإجرائية العلمية. وهو ما يعني بعبارة أخرى أن المصطلح النقدي علامة لغوية(signe linguistique) خاصة، تتميز عن غيرها من العلامات العادية الأخرى، بتكونها من دال ومدلول محددين بمجال معرفي معين، خلافا للعلامة اللغوية  العادية القابلة للتدليل على معاني متعددة، ضمانا للدقة والوضوح المطلوبين في التعبير والتلقي على حد سواء. وهنا يكمن جوهر الخلاف بين اللغة الاصطلاحية و اللغة العادية، اللغة الخاصة واللغة العامة، حيث يتم تأسيس الأولى بشكل مضاعف انطلاقا من الثانية، مما يكسبها صرامة ودقة أكثر، تتناسبان وطبيعة المهام العلمية المنوطة بها:( فإذا كان اللفظ الأدائي في اللغة صورة للمواضعة الجماعية، فإن المصطلح العلمي في سياق نفس النظام اللغوي يصبح مواضعة مضاعفة، إذ يتحول إلى اصطلاح في صلب الاصطلاح، فهو إذن نظام إبلاغي مزروع في حنايا النظام التواصلي الأول، إنه بصورة تعبيرية أخرى علامات مشتقة من جهاز علامي أوسع منه كما وأضيق منه ذمة. وهو لهذا شاهد على غائب، وهي حقيقة تعلل بصفة جوهرية صعوبة الخطاب اللساني من حيث هو تعبير يتسلط فيه العامل اللغوي على ذاته ليؤدي ثمرة العقل للمادة اللغوية)(1).

وحتى يتسنى لهذه اللغة الواصفة الثانية(métalangage) القيام بوظائفها العلمية و العملية على الوجه الأكمل، لابد من توفرها على شرطين أساسيين، هما:

( الأول: تمثيل كل مفهوم.. بمصطلح مستقــــــــــل.

والآخر: عدم تمثيل المفهوم.. الواحد بأكثر من مصطلح واحــــــــــد)(2).

فهل تحقق هذان الشرطان في مصطلحات النقد الروائي العربــــــــــي؟.

1/2-للإجابة عن هذا السؤال لابد من التذكير أولا بالوضعية الاستثنائية للكتابة الروائية العربية، كجنس أدبي حديث، حتى لانقول دخيل، في مشهدنا الإبداعي ، وتأثير ذلك السلبي على واقع الممارسة النقدية المرتبطة به، في ظل الفراغ المهول الذي يشكو منه التراث العربي في هذا المجال، مقارنة بما تزخر به الخزانة العربية في الشعر ونقده:( فتراثنا النقدي لايقدم لنا الأرضية المنهجية و الاصطلاحية الماهدة التي يمكن الانطلاق منها نحو مقاربة وتلقي الأجناس الأدبية الجديدة،  وبصفة أخص الأجناس السردية، فقد كان هذا التراث منشغلا طيلة أحقابه، وحتى نخاعه، بثابتين رئيسيين: الشعر والإعجاز القرآني)(3).

وهو ما انعكس جليا في اختلاف المهام العلمية المنوطة بنقاد هذين الجنسين الأدبيين، وهكذا ففي الوقت الذي يواجه فيه الناقد الروائي، بحكم غياب المرجعية النظرية العربية المتخصصة، مهمة التأسيس و التأصيل، تناط بناقد الشعر، لغنى الموروث العربي، مهمة التطوير و التحديث. وشتان طبعا بين المهمتين.

ولإنجاز المهمة الأولى، يجد الناقد الروائي العربي نفسه مجبرا على الاستعانة بالمعرفة الغربية، المورد الثقافي الوحيد لسد الخصاص العربي في هذا المجال، وملاحقة التطور السريع والمتلاحق الذي يعرفه البحث فيه. وما طغيان المراجع الغربية، مترجمة وأصلية، على أغلب،إن لم نقل كل الدراسات النقدية الروائية العربية، إلا دليل قوي على ذلك:( لقد شكلت النظريات الغربية في مجال النقد الروائي المصدر الأساسي ، إن لم نقل الحتمي، الذي استقى منه النقاد العرب مفهوم الرواية ، نظرا لحداثة هذا النوع في الأدب العربي، وغياب تراث نقدي في مجال الرواية قد يمتح منه الناقد،كما هو الشأن بالنسبة للشعر مثلا)(4).

إلا أنه بالرغم من الجهود الجبارة المبذولة في هذا الميدان طوال القرن الماضي، وبداية الحالي، فإن الحصيلة تبقى، مع ذلك، للأسف الشديد متواضعة، ولا تبعث على الارتياح، خاصة فيما يتعلق بقضية المصطلح. لأسباب عديدة ومتنوعة، ترتبط في مجملها بالكيفية العشوائية التي تتم بها هذه الاستفادة، لا بمبدأ الاستفادة ذاته، كما سنوضح ذلك لاحقا، بدليل الدور الإيجابي الكبير الذي لعبته الترجمة دائما في تقدم الشعوب وتقاربها، باعتبارها إحدى أهم القنوات الرئيسية لتمرير المعارف وتبادل المعلومات:( فالحياة الفكرية لدى مختلف الأمم تتغذى من هذا الانتقال ، الذي يكون شرطا، كثيرا ما يؤدي توفره إلى قيام نشاط فكري متميز)(5). ولنا في القفزة النوعية الجبارة التي عرفتها الحضارة العربية في العصر العباسي بفضل الترجمة، أكبر شاهد على ذلك.

وفي هذا الإطار يمكن تصنيف مظاهر الخلل الكامن وراء تعثر مسار قيام مصطلح نقدي روائي عربي محدد وموحد، لثلاث مجموعات رئيسية، بحسب تجلياتها المختلفة:

أولا خلل على مستوى الدال: وهو أكثر انتشارا في المشهد النقدي الروائي العربي، ويتجلى في إعطاء مقابلات عديدة، مختلفة غالبا، لمفهوم غربي واحد، خارقا بذلك إحدى أهم القواعد المعمول بها في هذا المجال، ممثلة في:( وضع مصطلح واحد للمفهوم العلمي الواحد .. في الحقل الواحد)(6). مما يفقد المصطلح قيمته الإجرائية، ويؤثر سلبا على دوره التواصلي الهام في نقل المعارف وتطويرها. ولعل نظرة سريعة على ما ينشر يوميا في المجلات و الجرائد كافية لإعطائنا صورة واضحة عن حجم انتشار هذه الظاهرة وخطورتها:( هناك مصطلحات سردية عديدة تروج في ما ينشر من دراسات وترجمات، إنها من الغنى و التنوع والتعدد الذي يمكن أن يشي بالإيجاب، لكنه للأسف يغدو مظهرا سلبيا يدل على التسيب وعدم التقيد بأي ضابط محدد. وهذا المظهر السلبي علاوة على أنه يخلق ارتباكا لدى المشتغلين،لأنهم يصبحون غير قادرين على التواصل فيما بينهم، رغم أن الموضوع الذي يشتغلون به واحد، ويؤثر بشكل أكثر سلبية على القاريء الذي يجد نفسه بصدد كل دراسة أمام ترسانة من المصطلحات السردية المتضاربة والمختلطة، التي تتكرر أحيانا، لكنها في كل مرة تظهر له بوجه)(7).

ثانيا خلل على مستوى المدلول: وهو أقل انتشارا من الأول، وإن كانت له نفس درجة خطورته، ما دام يمس الوجه الثاني الدلالي في معادلة المصطلح النقدي الروائي الصعبة، بإعطاء مفاهيم عديدة ومختلفة لنفس الدال الواحد، خارقا بذلك ثاني أهم قاعدة من قواعد وضع المصطلح، ممثلة في:( تجنب تعدد الدلالات للمصطلح الواحد في الحقل الواحد)(8). وبذلك يفقد المصطلح حمولته الدلالية  الموضوعية المرتبطة بمرجعية معرفية محددة واحدة، ليستبدلها بأخريات متعددة بتعدد واضعيها واختلاف مستوياتهم، مما ينعكس سلبا على كفاية المصطلح الإجرائية ودوره الفاعل في توحيد المعلومات، وتيسير تداولها.

ثالثا وأخيرا خلل على مستويي الدال والمدلول: ويعد أخطر مظاهر اضطراب المصطلح النقدي الروائي العربي على الإطلاق، لكونه يجمع بين مساويء الاضطرابين السابقين في وقت واحد، بإعطائه دوال ومداليل مختلفة عما هو سائد ومعروف عن هذه المصطلحات في مرجعياتها الغربية الأصلية، دون تبرير علمي يذكر. ولهذا أسميناه بالاضطراب المركب تمييزا له عن سابقيه. مما يعد مؤشرا قويا على الفوضى العارمة التي تجتاح ممارستنا النقدية الروائية وتطبعها بطابع التشتت و التشرذم، لدرجة يشعر معها القاريء وكأنه أمام تخصصات مختلفة متباعدة .

فما هي أسباب هذه الوضعية التي لاتزيدها الأيام إلا تفاقما؟

1/3- الواقع أن السبب العام لكل هذه الاختلالات المصطلحية السابقة، على اختلاف أشكالها وتنوع درجاتها، يعود أساسا لغياب مؤسسة علمية مسؤولة قادرة على تنسيق مختلف الجهود المبذولة في هذا المجال، وفرض احترامها. متجاوزة بذلك العجز الصارخ الحاصل في أداء المؤسسات الحالية( مكتب تنسيق التعريب والمجامع اللغوية)، جراء المساطر الملتوية المتبعة في طرق اشتغالها، وما تتطلبه من وقت كبير، يحول حتما دون مواكبة التطورات السريعة والمتلاحقة لمسيرة البحث العلمي في هذا الميدان، مما يترك المجال واسعا للمبادرات الفردية لتدارك الموقف وتعويض الخصاص، بكل ما لذلك من مضاعفات سلبية عديدة و مختلفة، بتعدد أصحابها، واختلاف مؤهلاتهم ومرجعياتهم : ( لقد كان بطء المجامع الشديد هو السبب الأساسي في فتح الباب على مصراعيه أمام الاجتهادات الشخصية… فلم يكن من المعقول أن نطلب من الباحثين أن يكفوا عن القراءة و البحث والتأليف و التعريب حتى يتلقوا الإذن من المجمع اللغوي( أو المجامع اللغوية)، ولهذا تواردت الاجتهادات دون ضابط أو رابط، ولم تنجح القرارات التي تصدرها المجامع في توحيد المصطلح)(9).

تبرير وإن بدا مقنعا فيما يخص وضع الظاهرة العام، إلا أنه يبقى مع ذلك عاجزا عن تفسير أشكال تجلياتها المختلفة، مما يستوجب البحث عن الأسباب الفرعية الخاصة بكل حالة على حده.

وهكذا فإذا عدنا مثلا للاختلال الأول الذي يصيب الدال، وحاولنا البحث في حيثياته وأبعاده، سنلاحظ أنها ترجع في جوهرها لعاملين اثنين لاثالث لهما:

الأول: يتمثل في تجاهل - كي لانقول جهل - بعض الباحثين بقواعد وضع المصطلحات المسطرة من قبل الهيئات العلمية الرسمية المسؤولة ( المجامع اللغوية ومكتب تنسيق التعريب)(*). واعتمادهم المطلق على اجتهاداتهم الشخصية ، دون احتكام لضوابط علمية واحدة وموحدة. وهكذا ففي الوقت الذي يعتمد فيه البعض على الترجمة في إيجاد المقابلات المصطلحية العربية، يفضل الآخرون التعريب أو الشرح، كما هو الحال مثلا بالنسبة لمصطلح( narratologie) التي نجد لها ثلاثة مقابلات عربية هي: السرديات، علم السرد، ونراتولوجيا. هذا طبعا دون احتساب التنويعات المختلفة التي قد تلحقها بفعل استبدال جذر(سرد) بحكى، قص، أو روى. مما يعطينا صورة واضحة عن الفوضى المصطلحية العارمة التي تطفح بها الساحة النقدية الروائية العربية بفعل ممارسات فردية عشوائية لامسؤولة. لنستمع لإحدى الباحثات تصف هذه الوضعية:( يترجم البعض معنى المصطلح في ضوء المعاجم اللغوية العربية، ويميل البعض إلى التوليد، ويبقي آخرون الكلمة كما ينطق بها، ولايقبلون بها بديلا، حتى أصبح لبعض المصطلحات الأجنبية عدد من المصطلحات المعربة تختلف باختلاف الأقطار العربية، بل تختلف أحيانا باختلاف المعربين في القطر الواحد)(10).

والثاني: يكمن في الطريقة الانفرادية المتجاوزة التي يمارس بها البحث العلمي عندنا، في غياب عمل مؤسساتي جماعي ممنهج ومدروس، كما هو متبع في المجتمعات المتقدمة، مما يضفي على اجتهاداتنا المصطلحية النقدية الروائية، طابع التعدد والإختلاف، لدرجة يشعر معها القاريء، وهو يتابع هذا الكم الهائل من الدراسات المنشورة، أن كل باحث أصبح يشكل " مدرسة نقدية " قائمة بذاتها، معزولة كليا عما يجري حولها في " المدارس " الأخرى، رغم اعتمادهم جميعا على خلفية معرفية غربية واحدة. الأمر الذي أصبح معه التواصل مع هذه النظريات الغربية في لغاتها الأصلية أيسر كثيرا ، في بعض الأحيان، من الإطلاع عليها مترجمة للعربية. نظرا للاضطراب الهائل الحاصل في ترجمة مصطلحاتها النقدية. مما يحول حتما دون النقل السليم لهذه المعارف، ويجهض بالتالي كل محاولات تأصيلها في التربة العربية:( فأمام هذا الوضع يروح القاريء أولا ضحية كثرة الاستعمالات والاختلافات، فترتبك بذلك عملية القراءة، ولا يتحقق بعد ذلك المراد الأكبر، وهو تجديد فكرنا الأدبي ومعرفتنا النقدية، وتطويرهما)(11)

صحيح أن مسؤولية التنسيق و التوحيد تتحملها، كما سبقت الإشارة لذلك، المؤسسات العلمية الرسمية، لكن هذا لايخلي، مع ذلك، ذمة النقاد والباحثين. نظرا لما يطبع أعمال بعضهم من فردية، قد تصل أحيانا درجة الأنانية، تجعلهم يتنكرون، بقصد أو بدون قصد، لجهود زملائهم السابقة في هذا الميدان. مما يحول حتما دون ترسيخ أعراف علمية سليمة قائمة على مبدأ التعاون البناء، الهادف لتوحيد الجهود وتحقيق التراكم المعرفي اللآزم لتطوير عجلة البحث العلمي والدفع بها إلى الأمام. تماما كما عبر عن ذلك بصدق أحد الباحثين قائلا:( لعل شيئا من إيثار العناد قد يكون وراء هذا التعدد والإختلاف، إذ أن كل فئة - وهذا من دواهي الأمور - تنطوي على شعور بأنها أحق بأن تتبع، وأنها من ثم لابد أن تبدع لنفسها مصطلحا خاصا بها، لايهمها بعد ذلك أوافق هذا المصطلح الدقة أو لم يوافق)(12).

على أن لايفهم من كلامنا هذا طبعا مصادرة حق الباحثين الشخصي المشروع في الاجتهاد ووضع المقابلات العربية التي يرونها مناسبة للمصطلحات الغربية. بقدر ما نريدهم أن يتقيدوا في ذلك بالضوابط العلمية المعروفة، لوضع حد للفوضى العارمة الحالية، وإضفاء مصداقية وفعالية أكثر على هذه الجهود في الوقت نفسه. وهو ما لن يتحقق طبعا إلا باستبدال الأنانيات بالعمل الجماعي المبني على ( روح الفريق)(13)، في وضع المصطلحات وتوظيفها. مع الالتزام باستعمال المقابلات العربية الصالحة السائدة، وعدم استبعادها إلا في حالات خاصة محدودة تفرضها الضرورة العلمية، كأن يلاحظ الباحث مثلا اضطرابا أو لبسا في مصطلحات زملائه السابقين، فيبادر لتصحيحها أو استبدالها بأخرى تتلاءم والمقتضيات العلمية. أما فيما عدا ذلك ، فلا أرى مبررا معقولا لإضاعة الوقت والجهد في وضع مقابلات جديدة تنضاف للقديمة، وتضايقها في الاستعمال، دون أن تضيف إليها شيئا. تماما كما يحدث في الغرب، حيث تخضع المصطلحات لتطور دائم ومستمر، لكنه منظم وهادف في نفس الوقت. يحتكم لمعطيات علمية موضوعية، تقيه شرور آفة الاعتبارات الشخصية الظرفية الضيقة، وتضفي عليه فعالية أكبر، قلما نجدها في ممارستنا النقدية المبنية على الأنانية و الإقصاء والتجاهل. مما يؤدي حتما لإجهاض هذه الجهود في المهد، وشل حركتها في تفعيل الحقل الثقافي العربي، وتوحيد خطواته.

ولعل نظرة خاطفة على ما ينشر يوميا في الصحف والمجلات كفيلة بإعطائنا صورة حقيقية عما تعرفه الساحة النقدية الروائية العربية من اضطراب اصطلاحي فظيع، لايخفف من حدة آثاره سوى وضع الأصول الغربية بجانب مقابلاتها العربية، مما ينم عن إحساس ضمني مسبق بعجز هذه الأخيرة عن أداء مهامها الإجرائية بشكل انفرادي في استقلال تام عن الأولى، كما انتبه لذلك بعض الباحثين:( فلولا أن الكثيرين ممن يقدمون المفاهيم الأجنبية في لفظ عربي يقرنون المصطلح العربي بنظيره الأوربي لغمض فهم المصطلح العربي على الكثيرين، ولكان هذا المصطلح عامل تفريق لا تجميع)(14).

أما إذا انتقلنا لدراسة الأسباب الخاصة الثاوية وراء قيام المظهر الثاني للاختلال المصطلحي المتعلق بالمدلول، فسنلاحظ جليا أنها تختلف كليا عما سبق ضبطه في الحالة الأولى، نظرا لاختلاف المعطيات الخاصة بكلا الاختلالين من ناحية، وتباين العوامل الفاعلة في ظهورهما من ناحية أخرى. لهذا نعتقد، اعتقادا جازما، أن كل التشوهات التي تلحق الوجه الثاني للمصطلح الخاص بالمدلول، لها علاقة مباشرة وطيدة بالكيفية الاختزالية التي يتم بها فهم و استيعاب هذه المفاهيم النقدية في مضانها المعرفية الغربية الأصلية. علما بأن دلالة المصطلح - أي مصطلح - محدودة، ترتهن بسياق معرفي مضبوط لاتتعداه، وكما قال أحد الباحثين:( المصطلحات مقيدة بحقولها المعرفية)(15).

لذلك فإن كل تعامل معها خارج هذا الإطار الضيق، من شأنه أن ينعكس سلبا على فهم مدلولاتها الحقيقية، ويفقدها بالتالي مصداقيتها الإجرائية، كما هو الحال بالنسبة لمصطلح (الواقعية/réalisme ) مثلا، وما يوحي به من دلالات عديدة مختلفة من مذهب لآخر:( فتحت مظلة الواقعية يستظل الكتاب الواقعيون والواقعيون الجدد والطبيعيون والانطباعيون والتعبيريون... فالواقعية لافتة عريضة جدا، وعلى تعريف الواقعية يتوقف حسم النزاع في المحكمة الدائمة الانعقاد)(16). نفس الشيء يمكن أن يقال عن مصطلح( السردية/ narrativité ) الذي يستعمل في دراسة بلاغة الخطاب السردي بمعنى مخالف تماما لما له في السيميائيات السردية(*).

وهذا إن دل على شيء، فإنما يدل على أن مسألة ترجمة المصطلحات عامة، والنقدية الروائية منها خاصة، ترجمة سليمة ودقيقة، مسألة صعبة ومعقدة، لاتتوقف فقط، كما قد يعتقد للوهلة الأولى ، على امتلاك الباحث لمعرفة جيدة باللغتين، المترجم منها وإليها، وإنما تتطلب بالإضافة لذلك إحاطة شاملة بالإطار المرجعي العام لهذه المصطلحات المنقولة، حتى لايقع اختزالها و تشويهها، وبالتالي استعمالها في غير ما أعدت له، مما قد يسيء لدور الترجمة الإيجابي في تلاقح الشعوب والحضارات. خصوصا إذا علمنا أن الترجمة سيف ذو حدين ، يجلب الخير كما قد يجلب الشر، تبعا للكيفية التي تتم بها. وإذا كانت شواهد التاريخ العربي على إيجابية الترجمة أكثر من أن تحصى، فإن واقعة الترجمة المغلوطة لبعض مصطلحات كتاب " فن الشعر " لأرسطو، وما ترتب عنها من مضاعفات معرفية خطيرة ، تعد من الحالات القليلة الدالة على سلبيتها(*). وهو ما يؤكد بما لايدع مجالا للشك ما قاله البعض من أن :( مفاتيح العلوم مصطلحاتها، ومصطلحات العلوم ثمارها القصوى، فهي مجمع حقائقها المعرفية، وعنوان ما به يتميز كل واحد منه عما سواه، وليس من مسلك يتوسل به الإنسان إلى منطق العلم غير ألفاظه الاصطلاحية، حتى لكأنها تقوم من كل علم مقام جهاز من الدوال ليست مدلولاتها إلا محاور العلم ذاته)(17).

أما فيما يخص الاختلال الثالث المركب، المعروف بجمعه بين تحريفي الدال و المدلول، فالملاحظ أنه يمثل أخطر مظاهر التسيب الاصطلاحي في خطابنا النقدي الروائي، لما يعكسه من استهتار بأبسط القواعد العلمية المتبعة في هذا المجال. سواء من حيث الجهل الفاضح بالإطار المرجعي للمصطلحات المترجمة، أو الإصرار الأعمى على تجاهل الجهد العربي السابق. وبذلك تفقد هذه المبادرات كل مصداقية علمية، وتشكل بالتالي عرقلة حقيقية في طريق تطوير معرفتنا السردية، ولعل ترجمة بعضهم لمصطلح ( histoire) بالتاريخ عوض الحكاية ، أكبر دليل على صحة ما نشير إليه.

 

1/4- لهذه الاعتبارات كلها نعتقد أن الوقت قد حان، لإيلاء هذه الإشكالية ما تستحق من العناية والاهتمام، عن طريق وضع استراتيجية فعالة بديلة على الصعيدين ، القطري والقومي، لتجاوز سلبيات الخطط التقليدية المتبعة حتى الآن، وذلك بدعم جهود الفاعلين الحقيقيين في المجال، وقطع الطريق على مبادرات المتطفلين المغشوشة الهدامة. مهمة صعبة حقا، لكنها ليست بالمستحيلة، إذا ما تضافرت طبعا جهود مختلف الجهات المسؤولة ، وفي انتظار ذلك هذه بعض المقترحات العملية الواجب اتخاذها لتدارك الموقف مرحليا قبل فوات الأوان:

1/ رفع وتيرة عمل المجامع اللغوية العربية، عن طريق تبسيط مساطر اشتغالها، لجعلها تساير التطورات السريعة و المتلاحقة في مختلف المجالات العلمية.

2/ توسيع اهتمام هذه المؤسسات لتشمل مختلف التخصصات العلمية ، بما فيها طبعا العلوم الإنسانية، وعدم حصرها في التجريبية فقط، كما هو حاصل الآن. لأن النهضة كل لايتجزأ، فإما أن تكون شاملة أو لاتكون.

3/ إعادة النظر في قواعد وضع المصطلحات العربية، بهدف توحيدها وتعميمها على كل الجهات العلمية المسؤولة، كي لايبقى هناك اختلاف بين هذا المجمع أو ذاك، كما هو حاصل الآن.

4/ استبدال الطرق التقليدية المتبعة حاليا في توصيل المعلومات المصطلحية بوسائل أخرى حديثة ومتطورة، تعتمد الحاسوب والأنترنيت.

5/ تفعيل دور مكتب تنسيق التعريب في توحيد جهود الفاعلين في هذا الميدان، مؤسسات وأفرادا، ربحا للجهد والوقت.

6/ خلق وحدات بحث متخصصة في قضايا المصطلح على صعيد مختلف الجامعات العربية، وإشراكها في المجهود القومي المبذول في هذا الاتجاه.

7/ عقد لقاءات دورية منتظمة بين المهتمين على مختلف المستويات ، المحلية، القطرية ، والقومية، لتبادل الآراء وتوحيد الخبرات.

وأخيرا تبقى الإشارة إلى أننا إذا كنا ، لأسباب منهجية محضة، قد ركزنا الحديث على قضية المصطلح النقدي الروائي العربي وحدها، فإن هذا لا يعني بأي حال من الأحوال، أننا نعتقد بإمكانية معالجة هذه المعضلة الخاصة في انفصال تام عن إطار إشكالية النهضة العربية العامة، نظرا للروابط الموضوعية الوثيقة القائمة بينهما. مما يستوجب معالجة شمولية، يصعب معها الفصل بين الجزء و الكل. وهو ما يعني ، بعبارة أخرى، أن المقترحات السابقة ستبقى مشلولة مالم تنتظم في سياق استراتيجية فاعلة واحدة متكاملة لمعالجة الإشكال في شموليته، لافرق بين علوم تجربية وإنسانية، ولابين علوم وفنون.

ولن يتحقق ذلك طبعا ما لم يتم رفع الاعتمادات المخصصة للبحث العلمي في كل الأقطار العربية، واعتباره عنصر استثمار أساسي حاسم في مشروع التنمية القومية بشكل عام.

 

الإحالات والهوامش:

 1/ عبد السلام المسدي: قاموس اللسانيات، منشورات الدار العربية للكتاب، 1984، ص:13.

2/ أحمد محمد ويس: الانزياح وتعدد المصطلح، مجلة عالم الفكر، المجلد الخامس والعشرون، العدد الثالث، السنة:1997،ص:57.

3/ نجيب العوفي: ظواهر نصية، منشورات عيون المقالات، الطبعة الأولى، 1992،ص:7/8.

4/ فاطمة الزهراء أزرويل: مفاهيم نقد الرواية بالمغرب، نشر الفنك،1989،ص:60.

5/ فاطمة الزهراء أزرويل: مرجع مذكور، 1989،ص:61.

6/ كارم السيد غنيم: اللغة العربية و النهضة العلمية المنشودة، مجلة عالم الفكر، المجلد التاسع عشر، العدد الرابع، السنة:1989، ص:69/70.

7/ سعيد يقطين: نظريات السرد وموضوعها، مجلة علامات، العدد:6، السنة:1996،ص:47.

8/أحمد مختار عمر: المصطلح الألسني العربي، مجلة عالم الفكر، المجلد العشرون، العدد الثالث، السنة:1989، ص:20/21.

*/ أنظر المباديء الأساسية المتبعة في وضع ونقل المصطلحات العلمية العربية، كما حددتها ندوة مكتب تنسيق التعريب المنعقدة بالرباط من 18 إلى 20 فبراير 1981. والمنشورة في الكتب والمقالات التالية:

- القاسمي علي: مقدمة في علم المصطلح، الموسوعة الصغيرة، وزارة الثقافة والإعلام، بغداد،1985،ص:107/112.

-فاضل تامر: اللغة الثانية، المركز الثقافي العربي، الطبعة الأولى، 1994، ص:171/172.

- كارم السيد غنيم: اللغة العربية والنهضة العلمية المنشودة، مجلة عالم الفكر، المجلد التاسع عشر، العدد الرابع، السنة:1989.

10/ نجاة عبد العزيز المطوع: آفاق الترجمة و التعريب، مجلة عالم الفكر، المجلد التاسع عشر، العدد الرابع، السنة:1989،ص:11/12.

11/ سعيد يقطين: المصطلح السردي العربي، مجلة نزوى، العدد:21، السنة:2000،ص:62.

12/ أحمد محمد ويس: مقالة مذكورة،ص:58.

13/ شاكر عبد الحميد: ندوة النقد العربي وأزمة الهوية، مجلة القاهرة، العدد:160، السنة:1996، ص:60.

14/ أحمد مختار عمر: مقالة مذكورة، ص:5.

15/ الدناي محمد: تداخل المصطلحات وإشكاليات الأنماط الشعرية العربية الضائعة، مجلة كلية الآداب بفاس، العدد الرابع، السنة:1988، ص:32.

16/ خلدون الشمعة: المنهج والمصطلح، منشورات اتحاد الكتاب العرب، دمشق ،1979،ص:207.

*/ أنظر:A’ J’ GREIMAS’ et J’ COURTES. sémiotique dictionnaire raisonné de la théorie du langage . tome. 1 . éd/ hachette universite. 1979. p. 247/248/249/250. .

*/ أنور لوقا: التساؤل على شفا المنزلق، مجلة فصول، عدد:3/4، سنة:1987،ص:15.