CSS Menus Samples Css3Menu.com

 

 

 

 

 

إشكالية المنهج في النقد المغربي الحديث

(قراءة جديدة)

 

 

 

 د. عـبد العالـــــي بوطيـب

كليــــة الآداب / مكنــاس

 

 

 

 

    تعتبر قضية المنهج من القضايا النقدية الشائكة ، التي كانت و لازالت تحظى باهتمام الكثير من الباحثين، على اختلاف توجهاتهم، و هو اهتمام لا علاقة له إطلاقا بما يطبع تعامل المبتدئين منهم مع بعض القضايا من ( فضول فكري أو نشوة ذهنية)(1)، بقدر ما هو تعبير عن القيمة الحقيقية المتزايدة التي تحظى بها هذه القضية في مجال البحث العلمي بمختلف جوانبه و تشعباته، لا باعتبارها : ( مفتاح التحكم في كل بحث ، و نجوع كل دراسة)(2)، و الأداة المساعدة على استنطاق القضايا و توليد الأفكار، كما يرى ياسبرز : ( إن قدرتنا على الإبداع ، تكمن في قدرتنا على إعادة توليد الأفكار التي تلقيناها عبر التاريخ، و بدون المناهج الصالحة تبقى المعطيات خرساء نستنطقها فلا تجيب)(3)، وإنما لكونها ، إضافة لكل ما سبق : ( قواعد مؤكدة و ضابطة، إذا راعاها الإنسان مراعاة دقيقة ، كان في مأمن من أن يحسب صوابا ما هو خطأ)(4)، كما قال ديكارت,

    وهو ما يفسر دون شك التراكم الكمي الهائل الحاصل في حجم الدراسات المنجزة حول هذا الموضوع ، سواء في شكل أبحاث أو أطاريح جامعية , غير أن هذا التراكم العددي لا يرافقه للأسف الشديد أحيانا وعي نظري عميق بحقيقة الإشكالية المطروحة في تشعباتها و أبعادها المختلفة، مما يجعلنا نعتقد صادقين، أن هذا الموضوع، رغم ما استنفده من جهود ، لا يزال في حاجة ماسة لمزيد من الدراسة و التمحيص ، تماما كما نبه لذلك بعض الباحثين قائلا: ( إن سؤال  المنهج  في سياقنا الثقافي الراهن ,,, ما يزال مفتوحا و مطروحا ، لم يستفرغ حمولته، و لم ينته إلى قرار)(5). و ذلك لأسباب عديدة ، منها ما له علاقة مباشرة بالطبيعة الخاصة للمناهج ، باعتبارها أدوات إجرائية يجب أن تخضع دوما و أبدا للفحص و التطوير المستمرين في محاولة لتحسين مردوديتها ، وجعلها مواكبة للتطورات الحاصلة في المجالات المعرفية الموظفة لخدمتها، خصوصا و : ( المقاييس المنهجية ليست في مأمن من كل نقد، إذ يمكن إعادة فحصها و تحسينها ، وتعويضها بأفضل منها)(6), و منها ما يعود للممارسات النقدية المغربية  الحالية، و ما تعرفه أحيانا من تعامل  غير سليم و لا واع مع المنهج ، قديمها و حديثها على حد سواء، مما انعكست آثاره سلبا على خطابنا النقدي الوطني في شكل : ( ظواهر مرضية)(7)، توزعت مظاهرها بين الارتحال (+)و التلفيق(+) و التشويه و الاختزال(+) و الآلية(+) التضخم النظري و الفقر التطبيقي (+) و إعلاء أهمية المنهج على حساب النص (+) وتقليص هامش التدخل البشري في توظيف المناهج (+) إلخ.

    لهذه الأسباب و غيرها كثير يخرج عن نطاق حديثنا ، تستمد ، في تقديرنا ، مسألة إعادة طرح إشكالية المنهج في نقدنا المغربي الحديث مشروعيتها و أهميتها ، خصوصا في ظل الانفتاح الكبير الذي تعرفه الساحة الثقافية الوطنية و القومية على المناهج النقدية الغربية الحديثة ، و ما تطرحه من قضايا و تحديات حقيقية  تفرض ضرورة إيجاد أجوبة جديدة ملائمة لها .

    نعتقد أن هذه الندوة تشكل فرصة سانحة لطرحها و التداول بشأنها ، بما يخدم مصلحة مشهدنا النقدي ، و يدعم مكانته المتقدمة في الساحة العربية , و هو ما لا يمكن أن يتحقق في نظري ما لم نقطع مع تصوراتنا و السابقة في الموضوع ، و نعيد النظر فيها من منظور مخالف جديد ، يساعد على فهم آخر الإشكال بعيدا عن الطروحات  المكرورة السابقة، التي أثبت التاريخ فشلها ، و هو ما يعني بعبارة أخرى أن ندوتنا هاته لن تحقق أهدافها العلمية المطلوبة ، أو بعضها على الأقل ، ما لم تقدم فيها أفكار جديدة ، تقيم قطيعة حقيقة مع التصورات القديمة و تتجاوزها ، و هذا ما لا يتأتي طبعا إلا بطرح قضية المنهج من منظور مغاير ، قادر سبر أغوار المشكل من جوانب أخرى ، قادرة على فتح آفاق واسعة جديدة من شأنها إخراج خطابنا النقدي من النفق المسدود الذي يتخبط فيه منذ فترة غير قصيرة ، بفعل شروط معرفية ، يشكل غياب الوعي المنهجي أحد أسبابها الرئيسية .

    موضوع المنهج ،استهلك كثيرا ، كما قلت سابقان دون أن يفقد راهنيته ، لأن أغلب المعالجات السابقة، اختزلت المسألة في شقها التطبيقي الظاهري فقط، متناسية أن الإشكال أعمق من ذلك بكثير، و أن حله  يتعلق أساسا بكيفية فهمنا له، و ما نتخذه تجاهه من مواقف ، و ليس مجرد إشكال تطبيقي استهلاكي كما تم طرحه سابقا ، لذلك انحصرت هذه المعالجات في الوقوف عند الظواهر و الأعراض المتولدة عن سوء فهم حقيقة الإشكالية فقط ، و لم تراوح مساءلتنا لها مكانها ، لتطرح حلولا جذرية لمعضلة نقادنا المغاربة مع المناهج الغربية.

    و أعتقد ، بالمناسبة ،أن هذا ما يعطي ندوتنا هاته مشروعيتها باعتبارها تشكل فرصة ثمينة لمراجعة موقفنا العقيم القديم من هذه المعضلة ، و طرح مواقف مغايرة جديدة من شانها مساعدتنا على الخروج من النفق المسدود الذي أوقعته فيه المعالجة السابقة، و الحد من بعض تداعياتها السلبية عليه.    و هو ما لا يتحقق طبعا دون القطع مع التصورات القديمة ، و وضع مسافة فكرية كافية معها قادرة على فهم ما يشوبها من أخطاء ، حالت و تحول دون تحقيق وعي حقيقي عميق بهذه المعضلة في أبعادها المتعددة و المتشعبة، بعيدا عن كل التبسيطات و التسطيحات السابقة. لكشف الخلفيات المعرفية الخاطئة الثاوية خلف هذه المعضلة ، و ما يتولد عنها من أعراض مرضية ظاهرية مختلفة. فبدون ذلك ستظل هذه الأعراض قائمة بقيام أسبابها الخفية .   

    و في هذا الإطار أعتقد أن مسؤولية معالجة هذا الإشكال و ما يتولد عنه من إفرازات مرضية مرفوضة تسيء لصورة النقد المغربي و نجاعته ، لا تقع على النقد وحده ، كما قد يظن خطأ ، و إنما يتقاسمها معه نقد النقد أيضا ، باعتباره ظل دائما يروج لفهم سطحي مغلوط لهذه المسألة ، حاصرا إياها  في جانبها التطبيقي الصرف ، كما تؤكد ذلك ملاحقاته الصارمة لما يسميه ( التشوهات ) المختلفة التي يقع فيها النقاد المغاربة أثناء تطبيقاتهم للمناهج الغربية المستوردة، و بالتالي ضبط مدى وفائهم أو خيانتهم للنماذج المنهجية المعتمدة , بمعنى أنهم يقيسون اشتغال الناقد المغربي الحالي على اشتغال سابق ، يشكل النموذج الكمال لما ينبغي أن يكون عليه نقدنا . بكل ما يضمره هذا التصور من تحجيم لمجهود الناقد المغربي و حصره  في مجرد استنساخ نموذج سابق لا أقل و لا أكثر ، و بذلك يكرس فيه الدونية و التقليد ، عوض الاجتهاد و التجديد ، بدعوى المحافظة على قداسة وهمية مزعومة للمنهج ، لا وجود لها أصلا إلا في أذهان أولئك المروجين لها فقط، ما دام الغرب نفسه ، لا يعترف بها ، و يعمل جاهدا يوميا لتكسيرها ، كما تشهد بذلك ممارساته التنظيرية ، و تؤكده قواعد الممارسة العلمية و النقدية السليمة .

    إن هذا الفهم القاصر و الظالم في الوقت ذاته ، يقوم على علاقة عمودية ، ترهن النقد المغربي بالنقد الغربي ، و تحد من إمكانية تطويره و مساعدته على تحقيق استقلاله و إضافته و تميزه، ما دامت تجعل منه مجرد مستهلك وفي لنموذج منهجي غربي جاهز ، ما عليه سوى احترام تعليمات تطبيقاته حرفيا ، دون زيادة أو نقصان ، خوفا من أن يتهم بالتحريف  و التشويه ، و بالتالي فإن أقصى ما يطلب منه هو التطبيق الحرفي لهذا النموذج الكامل، و التماهي قدر الإمكان في الأصل ، و لا شيء غير ذلك ، من شأنه أن يجر عليه سخط نقد النقد و القائمين عليه ، لا لشيء إلا لأنه تجرأ على ممارسة حقه في  الإبداع و الخلق , و بذلك نحكم ، من حيث ندري أو لا ندري ، على النقد و النقاد بالتزام التقليد و الإتباع  حتى النخاع، مصادرين حقهم الطبيعي في الاجتهاد و التفكير في إيجاد طرق جديدة لإكساب المناهج النقدية المستوردة إمكانيات مغايرة للتطور و التأقلم مع السياقات و النصوص الجديدة ، عوض الاكتفاء باستنساخ تطبيقاتها السابقة المستهلكة ، ناسين أو متناسين أن هذا الناقد مهما فعل في ظل هذا الطرح فسيظل دائما نسخة مشوهة للأصل، و أن الذوبان الكلي في الآخر لن يتحقق أبدا مهما حاول ، فكيف بعد هذا كله نحاسبه على ما ليس مسؤولا عنه .

    لذلك نعتقد أن نقد النقد المغربي ساهم بقدر كبير في ترسيخ الوضعية المأزومة الراهنة لتطبيقاتنا المنهجية ، من خلال فرض تصور مغلوط عن كيفية التعامل مع المناهج و النظريات النقدية الغربية المستوردة، و إرغام النقاد على التزام سقف اشتغال محدود ، ينحصر في مجرد توظيف استهلاكي  آلي ، بعيدا عن كل استثمار إيجابي منتج ، من شأنه استنبات هذه المناهج في تربتها الجديدة و  إكسابها كفاية إجرائية جديدة لم تسمح بها شروط و نصوص تطبيقاته السابقة, و هو ما أثر سلبا على ممارستنا النقدية و دفع أغلب النقاد المغاربة للاهتمام أكثر في كتاباتهم النقدية بالجانب المنهجي على حساب جوانب أخرى كالنص مثلا، و بالتالي الاشتغال أكثر على مدى احترامهم و التزامهم الحرفي بالخطوات الإجرائية الواردة في المنهج المعتمد، حتى و لو كان ذلك على حساب خصوصية النص المدروس و سياقه السوسيوثقافي ، خوفا من أن يتهموا بالتشويه و التحريف و التلفيق و غيرها من التهم المعروفة الأخرى. و كأن المنهج المستورد مقدس ، يعتبر تعديله و تطويره تدنيسا و جرما مرفوضين ، عكس ما تقضي بذلك قواعد الممارسة النقدية الإيجابية القاضية بضرورة احترام النص و لا شيء غير النص ، و أن المنهج مجرد وسيلة ينبغي إخضاعها، ككل الوسائل الأخرى، لما تقتضيه خصوصية النص أولا و أخيرا.   

    يجب أن نؤمن أن المنهج مجرد أداة، و أن قيمته تكمن اساسا في كفايته الإجرائية ، المرتهنة في جزء كبير منها  بقدرة الناقد و خبرته في حسن استثمار طاقاته أو الحد منها , و هو ما لا يتحقق طبعا دون إعطاء الناقد كامل الحرية في إعادة خلق المناهج المستوردة و الكشف عما قد يكون لها من  طاقات إجرائية منسية جديدة معطلة في تطبيقاتها القديمة ، بعيدا عن كل قداسة منهجية زائفة من شأنها إرغامه على إكراه النص على التأقلم معها، و التكيف وفق ضوابطها، مما سيؤدي حتما لتشويه النص المدروس ، و تحويل طبيعة الممارسة النقدية من فعل إيجابي منتج يسعى لكشف خبايا النصوص الأدبية لفعل آلي سلبي يتخذ النصوص مجالا للاستدلال على إجرائية المناهج المعتمد .و شتان طبعا بين الممارستين.

    الأكثر من هذا أن هذا التصور يفقد الناقد حقه المشروع في استثمار طاقته و استعمال حريته في اختيار ما يراه مناسبا في المناهج المستوردة للنصوص المدروسة ، بعيدا عن كل ما من شانه تجريد دوره من فاعليته ، و تحويله لمجرد منفذ  ينحصر دوره في التطبيق الحرفي لخطوات المنهج المعتمد ، إن أقصى ما يطلب منه هو تمثل خطوات  هذا المنهج أو ذاك. ليصبح في أحسن الأحوال تلميذا بليدا يحسن ترديد خطواته أستاذه ، و كأنه نسخة مطابقة له ، لا أقل و لا أكثر، إن هذه الرغبة الحارقة العمياء في التماهي السلبي المطلق للناقد المغربي ، حد الذوبان في الناقد الغربي، بكل مخاطرها الظاهرة و الخفية، هي ما يعرقل ، في تقديري جهودنا في استنبات و تطوير ممارستنا النقدية و التنظيرية المغربية و العربية على حد سواء,

    إن هذا الفهم الخاطيء لقضية المنهج ، و من خلاله لعلاقتنا بالفكر الغربي عامة، كانت له سلطة معنوية سلبية رهيبة على غالبية نقادنا، قد لا يتصور حجم خطورتها نقاد النقد أنفسهم، لدرجة أن بعضهم تمسك حد العماء بهذه الممارسة الخاطئة ، دون تمحيص أو مراجعة، خوفا من أن يقال عنه إنه حرف منهج فلان أو شوه منهج فلان, رغم استشعاره العميق أحيانا ، و لو بشكل ضمني من خلال التطبيق طبعا، بصعوبة الحفاظ على خطوات المنهج المعتمد كلها، وبالتالي مصادرة حقه المشروع في تكييفها وفق ما تسمح به خصوصية النص المدروس و سياقه الثقافي الجديد,

    لذلك نعتقد أن تعامل النقاد السلبي مع المناهج الغربية، بمباركة و توجيه خاطئ من نقد النقد ، هو ما حال إلى اليوم دون قيام حركة نقدية حقيقية  بمشاريع واضحة و محددة في مشهدنا المغربي , لأننا تشبثنا ، طوال المدة السابقة ، بمعالجة الإشكال في بعده السطحي فقط ، ناسين أو متناسين أن المعالجة الحقيقية ينبغي أن تنصب على الجوهر الكامن خلف هذه الأعراض الظاهرية ، و أن كل تأجيل لذلك لن يزيد الوضع إلا تأزما ، كما هو حاصل الآن , لذلك لا بد من مراجعة هذا الموقف من أساسه و استبداله بموقف آخر يعيد للناقد المغربي حريته و ثقته بنفسه ، في التعامل مع المناهج بالشكل و الطريقة التي يراها مناسبة للنص المدروس ، شريطة أن يكون اختياره هذا مدعوما بوعي حقيقي عميق بمبررات منطقية و معرفية مقنعة بهذه مشروعية هذه التعديلات و نجاعتها الإجرائية في السياق الثقافي الجديد , و هو ما يعني بالمقابل أن حرص نقد النقد ينبغي أن يركز على مراقبة الخلفية المعرفية لهذا التطبيقات  ، عوض الاكتفاء بملاحقة بظواهر تنفيذها فقط مصادرا حق الناقد في الخلق و الإبداع، و إرغامه بالتالي على التقليد و الاتباع بدعوى قداسة وهمية مزعومة منافية لقواعد الممارسة النقدية السليمة.

    و بذلك سنحصن هذه الممارسة من تطاول الدخلاء ممن يشوهون حقيقة عن جهل المناهج المستورد ة ، دون أن نحد من حق الأصلاء المشروع في الاجتهاد الخلاق  المنتج ، فما كل اجتهاد تحريف ، و ما كل تحريف طبعا بالمقابل اجتهاد ، و دور نقد النقد ، بالضرورة يكمن في التمييز بين الاثنين ، و أن لا يأخذ الجميع بجريرة البعض ، لما قد يكون لذلك من انعكاسات وخيمة ظالمة للنقاد و النقد على حد سواء. و هو ما ينبغي أن يقومه نقد النقد , لأنه يدخل طبعا ضمن اختصاصاته و مسؤولياته.