CSS Menus Samples Css3Menu.com

 

 

 


 

بلاغة الخطاب الإشهاري

(الصورة الثابتة نموذجا )(+)

 

د. عبد العالي بوطيب

البحث في موضوع الإشهار شيق وشائك في نفس الوقت، شيق لأنه يمكن صاحبه من معرفة عميقة بمقومات لون تعبيري جماهيري ، ما فتئت أهميته تزداد يوما عن يوم. وشائك لأنه مجال شاسع ، تتوزعه مجموعة كبيرة من الحقول و الوسائط المعرفية المختلفة ( نفسية، اجتماعية، ثقافية، و حضارية..)، مما يجعل البحث فيه أقرب ما يكون لمغامرة محفوفة بالكثير من المخاطر و الصعوبات.

و لتقليص حجم هذه المخاطر، و تاثيراتها السلبية المحتملة ، قررنا حصر مجال دراستنا في جانب واحد بعينه، حدده العنوان الرئيسي ببلاغة الخطاب الإشهاري، أو ما يمكن تسميته بالوسائل التعبيرية المختلفة المعتمدة في تمرير الرسالة الإشهارية. ما دام: ( الإشهار يطمح لتعريف الجمهور بمنتوج ما، و العمل على دفعه لاقتنائه)(1). و هو ما يعني ، بعبارة أخرى، أن نجاح المشهر( le publicitaire) في مهمته ، رهين بحسن اختياره للوسائل والآليات التعبيرية : ( التي يرى أنها أكثر فعالية )(2) لتمرير رسالته.

لذلك نعتقد، اعتقادا راسخا، بأن الخطاب الإشهاري، دونا عن غيره من الخطابات الأخرى، يتميز ببناء محكم خاص، تتضافر مختلف مكوناته التعبيرية ،بقصد تبليغ رسالة وحيدة ومحددة، لايمكن، و لا ينبغي أبدا، أن يخطئها القارىء المستهدف  (le lecteur cible )(*)، و الزبون المحتمل ( le client éventuel)، وإلا اعتبر ذلك دليلا على فشله الذريع .

و مما زاد في ترجيح كفة دراسة هذا الجانب البنيوي الداخلي في الخطاب الإشهاري، على صعوبته، ما تعرفه الثقافة العربية الإسلامية، لأسباب تاريخية عديدة لامجال لذكرها (*)، من خصاص كبير في هذا المجال ، انعكست آثاره السلبية واضحة على محدودية معرفتنا البصرية.

لذلك نعتقد أن دراسة هذا الجانب بالذات تعد خطوة أساسية على طريق سد بعض هذا الخصاص.

و لأن الخطاب الإشهاري مفهوم عام يحيل على أنواع مختلفة ، باختلاف الوسائط الإعلامية المستعملة، و الموزعة بين : ( ملصق، جريدة، سينما، راديو، وتلفزيون)(3). بكل ما لذلك من تأثير كبير في تحديد أنواع الآليات التعبيرية الملائمة لكل وسيط. فقد كان لزاما علينا حصر موضوع بحث بلاغة الخطاب الإشهاري في نموذج محدد بعينه، تفاديا لكل خلط أو تقصير من شأنهما الإساءة علميا لقيمة الدراسة. لذلك قررنا ، كما هو واضح من العنوان الفرعي، اعتماد الصورة الإشهارية الثابتة نموذجا. لما لها، في تقديرنا ، من خصوصيات تكوينية مناسبة لطبيعتها الفضائية الجامدة، تؤهلها لأداء وظيفة تواصلية محددة على الوجه الأكمل.

ف : ( كيف تقول الصورة ما تقوله ؟ و ما هي الوسائل الموظفة لذلك ؟ )(4)،أو بعبارة أوضح : ( كيف يأتي المعنى للصورة ؟ )(5)، و ما هي آليات و بلاغة إنتاجه ؟ . أسئلة ، من بين أخرى، سنحاول الإجابة عنها. على أن ستكون البداية بتحديد أنواع العلامات المتواجدة بالصورة، قبل الانتقال ،بعد ذلك، لضبط كيفيات اشتغالها  المختلفة، المباشرة وغير المباشرة ،  الظاهرة و الخفية،الفكرية والفنية…إلخ.

يجمع أغلب المنظرين على اعتبار الصورة الإشهارية الثابتة فضاء لتقاطع علامات عديدة، مختلفة ومتكاملة، حددتها مارتين جولي ( Martine joly) في ثلاثة أنواع هي : ( -الصور- بالمعنى النظري لمصطلح علامات إيقونية – signes iconiques-… و أيضا علامات تشكيلية – signes plastiques-  من ألوان، أشكال، وتأليف داخلي… . و في أغلب الأحيان من علامات لغوية –signes linguistiques- أيضا )( 6). لذلك فلا غرابة إذا ما وجدناها تصر على اعتبار اللآتجانس ( hétérogénéité) خاصية تكوينية أساسية لفهم حقيقة الصورة عامة، و الإشهارية خاصة ، خلافا لما يظنه البعض : ( فما نسميه – صورة – هو شيء غير متجانس، بمعنى أنه يحوي و ينسق داخل إطار( un cadre).. أنواعا مختلفة من العلامات )(7).

حضور لا يمكن، بأي حال من الأحوال، أن يكون عفويا و لا مجانيا، ما دام كل شيء في الصورة ( يتكلم )، و : (لا وجود للإيقون الأخرس أبدا )(8)، كما يقول بارت.

فما سر تواجد هذا الركام من العلامات المختلفة في فضاء الصورة الإشهارية الثابتة ؟ ، وما الوظائف التعبيرية ، المباشرة وغير المباشرة، الموكولة لها ؟ و كيف تنتظم لتمرير رسالة معينة؟.

للإجابة عن هذه الأسئلة و غيرها، لا بد ، أولا، من تحديد أنماط حضور كل صنف  من العلامات السابقة، و ضبط شكل ( أو أشكال) اشتغاله . قبل الانتقال، بعد ذلك، لاستخلاص المحصلة  الوظيفية العامة لتقاطع هذه العلامات في الرسالة البصرية ككل.

    · / العلامات التشكيلية ( les signes plastiques) :  وتتمثل أساسا في مجموع العناصر التشكيلية المضافة للعلامة ( أو العلامات) الإيقونية ( التشخيصية / figuratif)، والمساهمة معها في تكوين الصورة  الإشهارية،  من ألوان ،لأشكال، فتأليف ..إلخ. ويعود  الفضل  في إبراز الأهمية  التعبيرية لهذه الاختيارات التشكيلية لجماعة مو (groupe mu ) البلجيكية ، حين اعتبرتها ، في بداية الثمانينيات ، أكثر من مجرد مواد تزيينية  تكميلية للعلامة الإيقونية. ما دامت تساهم بقسط  وافر في تحديد مضمون الرسالة البصرية ( le message visuel) ككل . كما سيتضح ذلك لاحقا (*). فماذا عن كل عنصر من هذه العناصر ؟ و ما حجم مساهمته في توجيه المشاهد / المتلقي نحو قراءة محددة؟.

    · 1/ الإطار( le cadre) : من المعلوم أن لكل صورة حدودا مادية، تضبط ، حسب الحقب و الاتجاهات، بإطار. و حتى حين لم يكن الإطار موجودا، فقد كان الإحساس به قائما. مما يفسر فشل العديد من محاولات تجاهله أو تناسيه، باعتماد الكثير من الاجراءات التقنية المتاحة، والمتراوحة بين إعادة وضع إطار داخلي للصورة، و محو الإطار تماما.

إجراءات تبدو ظاهريا مجرد اختيارات تقنية، رغم أن لها في العمق  تأثيرات كبيرة على عملية تلقي الرسالة البصرية وقراءتها. و هكذا ففي حالة إلغاء الإطار ، مثلا، تبدو الصورة كما لو كانت مقطوعة وغير تامة، وكأن حجمها يتجاوز بكثير حجم الوسيلة الحاملة لها (support). و هو ما يعني ، بعبارة أخرى، أننا إذا لم نتمكن من مشاهدة الصورة كاملة، فلأن صفحة الجريدة أو المجلة.. المنشورة بها ، أصغر بكثير من حجمها. و من تم فما علينا لاستكمال النقص الحاصل في مكونات الصورة داخل المجال البصري المعروض( le champ visuel) ، سوى الاعتماد على مخيلتنا الخاصة لتأثيت المجال الخارجي (  le hors champ). و بذلك : ( يؤسس … غياب الإطار.. لقيام صورة منزاحة عن المركز (centrifuge)، و محفزة على بناء تخييلي تكميلي )(9) كما تقول مارتين جولي .

أما حين يستعمل فضاء صفحة بيضاء إطارا لصورة صغيرة تتوسطه. فلغاية إحداث تأثير عكسي، يتمثل في سجن المشهد والمشاهد معا ، وجذبهما نحو بعضهما البعض، في اتجاه المركز ، والدخول في عالم التخييل.

      · 2/ التأطير ( le cadrage) : و هو غير الإطار، طبعا، لأن هذا الأخير، كما سبقت الإشارة لذلك، هو: ( حد المعروض البصري، بينما التأطير يقابل حجم الصورة، كنتيجة مفترضة للمسافة الفاصلة بين الموضوع المصور و العدسة اللآقطة (l’objectif) )(10). فالمعروف أن هناك ثلاثة أنواع من العدسات ، لكل واحدة مواصفات تبئيرية خاصة تتناسب و الأهداف التشخيصية للمصور.

فالعدسة المتراوحة بين 50 و 58 مم، مثلا، ذات تبئير عادي ( focale normale  )، يعيد المنظور لوضعه الطبيعي.                                       

و العدسة الأقل من 35 مم، لها تبئير قصير ( courte focale  ) ، قادر على التقاط مجال بصري أوسع، مع ما يترتب عن ذلك من تصغير و إبعاد للموضوعات المصورة.

أما العدسة الأكثر من 65 مم ، فتبئيرها طويل ( longue focale  )، و مجالها البصري ضيق، والموضوعات مضخمة و قريبة(*). مما يعطينا فكرة تقريبية : ( عن بعض الإمكانيات التي تقدمها مختلف هذه العدسات من أجل سيطرة أفضل على الفضاء الخارجي، وإنتاج تأثيرات مدهشة )(11).

      · 3/ زاوية التقاط الصورة و اختيار العدسة( angle de prise de vue et choix de l'objectif  : و اختيارهما حاسم في تقوية أو إضعاف الإيهام الواقعي للصورة في ارتباط وثيق بالأداة الحاملة لها ( support  ).

فعلى مستوى زاوية التقاط الصورة، مثلا، هناك ثلاث إمكانيات  مختلفة ، لكل واحدة مواصفات تشخيصية وإيحائية معينة تميزها عن غيرها ، و تضبط ، بالتالي، شروط  وغايات اختيارها.

ففي الزاوية العادية ( angle de prise de vue normal)  توضع العدسة أمام الشخصية أو المشهد المراد تصويره ، وفي نفس مستواه. مما يقوي الإحساس بواقعية اللقطة ، و يقربها أكثر من الرؤية الطبيعية. بخلاف الزاوية الفوقية ( angle de plongée) حيث الصورة ملتقطة من أعلى، والعدسة مائلة نحو الأسفل، مما يعطي الإحساس بانسحاق و حقارة  الشخصيات. وإن كان هذا لا يمنع ،طبعا، من استعمال هذه التقنية، أحيانا، لأغراض أخرى، وصفية أو سردية. أما الزاوية التحتية ( angle de contre - plongée  ) المسخرة عادة لالتقاط  صور الموضوعات من أسفل، فتوحي ، عكس السابقة ، بالعظمة و القوة و الشموخ(*).

أما بخصوص العدسات ( objectifs) ، فإن ما يهمنا ، الآن ، من إعادة إثارتها، فيتعلق أساسا بوضوح أو ضبابية الصورة ، كاختيار تقني لا تخفى أبعاده  الإيحائية المقصودة.

إذ المعروف أن هناك عدسات ( ذات تبئير قصير)، قادرة على التقاط صور  دقيقة و واضحة على المستويين، الأمامي والخلفي ، ( le premier plan  /  l’arriére-plan ). مما يكسب الصورة على سطحيتها ، بعدا إضافيا ثالثا، يجعلها أقرب كثيرا للرؤية الطبيعية، و يعطي بالتالي الإحساس بواقعيتها.

في مقابل ذلك ، توجد عدسات أخرى ( ذات تبئير طويل) ، تركز الرؤية على بعض عناصر الصورة فقط، وبذلك تسحق المنظور ، و تعطي صورا أكثر تعبيرية، تزاوج بين الوضوح ( net) و التعتيم ( flou) ، بين الدقة والغموض. تقنية غالبا ما تعتمد لفصل الموضوع عن خلفيته، و فك ارتباطه  بعمقه الجغرافي ، قصد إكسابه صبغة عامة، خلافا للصور الملتقطة بعدسات أخرى ذات مواصفات تقنية مغايرة (*).

      · 4/التأليف و إعداد الصفحة، ( composition et mise en page) : أو ما يسميه البعض، بتنظيم الفضاء (  organisation de l'espace)(12)، و يهتم بالتوزيع الهندسي لمجال الرسالة البصرية الداخلي، لا بالنظر لأبعاده الإيحائية القوية فقط : ( فقد يحدث أن يكون التعارض الملائم في لوحة يتعلق بتأليف الصورة،  لا الموضوعات التي تعيد إنتاجها )( 13)، وإنما لكونه، أيضا، آلية تشكيلية أساسية معروفة بدورها  الجوهري في تحديد تراتبية الرؤية ( la hiérarchisation de la vision)، وتوجيه القراءة. لأن العين ، كما يقول بول كلي ( paul klée) : ( تعودت أن تسلك دائما الطرق التي أعدت لها في العمل )(14)، خلافا لما يعتقده البعض من شمولية القراءة.

 وهو ما يعني أن اتجاه القراءة، يحمل قيمة أساسية في استهلاك الإعلان الإشهاري. تختلف باختلاف الثقافات. فالقراءة من اليسار إلى اليمين مهمة عند الغربيين ، بينما الشرقيون  فيفضلون عنها القراءة من اليمين إلى اليسار…إلخ. عوامل من بين أخرى، تفرض على مصممي الإعلانات الإشهارية إيلاءها الأهمية المناسبة، لما تقوم به من دور خاص في توجيه رؤية المشاهد نحو المسارات و المساحات ذات الشحنة المعلومات العالية في الخطاب : ( فطريق المعنى وحيد، و إذا ما رسم بشكل مخالف ، فلن يصل القارىء لنفس المكان )(15)كما تقول مارتين جولي.

و للتذكير فقد سبق لجورج بنينو ( géorges péninou) أن خص إكراهات القراءة ، في علاقتها بالتشكيلات المفضلة ( configurations privilégiées) للصورة الإشهارية، بدراسة مستفيضة، خلص فيها لأربع حالات، هي:

              · ا/البناء المبأر( la construction focalisée) : حيث خطوط القوة ،من أشكال وألوان …، تلتقي جميعها عند نقطة محددة، تشكل وسيلة استراتيجية لجذب رؤية المشاهد إلى حيث يوجد المنتوج ( le produit).

      · ب/ البناء المحوري ( la construction axiale):  و تتميز عادة بوضع المنتوج على محور النظر ، المحدد غالبا بوسط الإعلان.

      ·  ج/البناء في العمق ( la construction en profondeur) : حيث يوضع المنتوج في الواجهة الأمامية لمشهد  تأطيري عام يشكل  خلفيته  التزيينية.

      ·  د/البناء التسلسلي  ( la construction séquentielle) :ويقوم على الدفع برؤية المشاهد لمسح الإعلان ككل، قبل أن تقع عينه في النهاية على المنتوج. الموضوع غالبا في أسفل الجهة اليمنى للإعلان عند الغربيين. و في أسفل الجهة اليسرى عند الشرقيين (*).

      · 5/ الأشكـال ( les formes): ما من شك أن للأشكال ، كباقي الآليات التشكيلية الأخرى، أبعادا أنتروبولوجية وثقافية، على صلة وثيقة بمعارف القارىء المستهدف و مقوماته الحضارية. رغم ما قد توحي به ظاهريا من براءة زائفة، غالبا ما تنسينا : ( أن صورة الواقع هي غير الواقع في الصورة)(16). وأن هذا الأخير لا يعدو، في الحقيقة، أن يكون مجرد نتاج اختيارات تقنية معروفة لأداء دلالة محددة، تماما كما أشارت لذلك ، بحق، مارتين جولي قائلة : ( كل هذه الاختيارات،وكل هذه المناورات تثبت أننا نبني الصورة ، ونبني معها بالتالي دلالتها )(17). حقيقة يصعب فهمها ما لم نتمكن من مشاهدة الصورة في ذاتها مجردة عما تمثله.

      ·  6/الألوان و الإنارة( les couleurs et l'eclairage) : تأويل الألوان والإنارة، كتأويل الأشكال، ذو بعد أنتروبولوجي، يحيل في العمق على خلفية سوسيو ثقافية محددة، رغم ما قد تكتسيه أحيانا من مظهر طبيعي ، يخفي أبعادها التعبيرية المعروفة ويطمسها. بدليل ما تحدثه في المشاهد من آثار نفسية مختلفة، تعيده لنفس إحساس التجربة الأولى. فالأسود لون الحزن، و الأبيض لون الصفاء، والأحمر لون العنف، إلى غير ذلك من الإيحاءات العديدة الأخرى، المدعمة لقصدية هذه الاختيارات التشكيلية في الصورة الإشهارية.

و إجمالا فرغم صعوبة الفصل ،جذريا و نهائيا، بين الدلالة التشكيلية و الدلالة الإيقونية في الصورة الإشهارية، فإن المقاربة السابقة، أظهرت، بما لا يدع مجالا للشك، أن كل هذه الاختيارات التشكيلية اختيارات هادفة، تضمر أبعادا إيحائية واضحة، وإن بدت أحيانا طبيعية، إنها ببساطة: ( علامات مشحونة و مشكلة لضمان قراءة أفضل)(18). لهذا فما على المشاهد سوى التمعن فيها، و العمل على استخلاص ظلالها الإيحائية المختلفة، قبل الانتقال لقراءة عناصر المكون الثاني.

II العلامات الإيقونية ( les signes iconiques) :  تشكل العلامات الإيقونية مكونا أساسيا من مكونات الصورة الإشهارية، لا باعتبارها الآلية الوحيدة المساعدة على – استنساخ – الواقع وتقديمه فقط ، ما دامت: ( الصورة هي، أولا، شيء ما يشبه شيئا آخر)(19). بل لما تضمره كذلك من أبعاد إيحائية عديدة و متشعبة، غالبا ما تتجاوز نطاق التماثل المادي للموضوع المنقول : ( لأن الصورة تريد دائما أن تقول أكثر مما تعرضه في الدرجة الأولى، أي على مستوى التصريح )(20).

و للاقتراب أكثر من خصوصيات هذا المكون الهام، نقترح تقسيم دراسته لمستويين، مختلفين ومتكاملين، هما :

          · 1/ مستوى الموضوعات ( les motifs) : يتم فيه التركيز على الموضوع ( أو الموضوعات) المصورة، مع وصف دقيق و مركز لجزئياتها، الحاضرة والمغيبة، و ما تحمله من أبعاد تعبيرية محددة في سياق سوسيو ثقافي معين.  ما دام:(  حضورعنصر ، كغيابه ، يعد اختيارا ، على التحليل أخذه بعين الاعتبار)( 21).

          ·  2/مستوى وضعية النموذج ( la pose du modéle) : و يتعلق الأمر بدراسة الطريقة الخاصة المعتمدة في عرض الموضوعات ، وتوزيعها داخل مجال الصورة الإشهارية، أو ما يسمى بالسينوغرافيا ( la scénographie) ، لتحديد أبعادها التعبيرية، وما تضمره من تسنينات (codes ) سوسيو ثقافية. فوضعيات شخصيات، مثلا، في علاقاتهم ببعضهم البعض، يمكن تأويلها انطلاقا من معطيات اجتماعية مضبوطة ( علاقة عائلية، حميمية، عدائية، ..إلخ).

نفس الشيء ينطبق على الاختيارات الكلاسيكية المتبعة في عرض الشخصيات(النماذج) ، وتقديمها للمشاهد. فعرض الشخصية من الأمام ، كما لو كانت تنظر للمشاهد، يعطي الانطباع بوجود علاقة شخصية مباشرة بينهما. إحساس سرعان ما يختفي بمجرد استبداله بلقطة جانبية، تكشف عن وجود شخص ثالث وسيط يقطع حبل علاقتهما المباشرة ، و يحولها لمجرد تأمل غير مباشر. بكل ما لذلك من انعكاسات متباينة على شكل الانخراط المطلوب من المشاهد. و هكذا : ( ففي الوقت الذي تهيمن فيه الرغبة في الحوار و تبادل الرأي على وضعية وجه لوجه الأولى، تسيطر الرغبة في المحاكاة وامتلاك مؤهلات النموذج على وضعية – المشهد – الثانية)( 22).

و بذلك يتضح أن تأويل الموضوعات الإيقونية في الصورة الإشهارية غالبا ما يقوم على أساس وساطة إجراءات إيحائية عديدة مؤسسة على مؤثرات مختلفة ، تتوزع بين الاستعمالات السوسيو ثقافية للموضوعات المصورة من جهة، و أشكال و طرق عرضها على المشاهد من جهة أخرى. و هو ما يعني بعبارة أوضح : ( أن مصدر تسنين صورة إشهارية يعود دائما للتصورات اللآواعية لأناس مجتمع ما، أي طريقة نظرتهم للعالم، و بالتالي إيديولوجيتهم )( 23). وهو ما يتطلب مقاربة جديدة تقطع كليا مع التصورات التقليدية السابقة،  ونظراتها الاختزالية القائمة على إسقاط البعد الشكلي/الإبداعي في الصورة، وتحويلها لمجرد –استنساخ - حرفي للواقع. ناسين أو متناسين : ( أنه لا يمكن العثور – على الأقل في الإشهار – على صورة حرفية - littérale -  خالصة  )( 24). وأن : ( الأشكال والموضوعات تتداخل في العمل المنجز)(25).

III العلامات اللغوية ( les signes linguistiques):  أشرنا سابقا إلى أن الصورة الإشهارية الثابتة تعتمد في تمرير رسالتها( رسائلها) على مجموعة مختلفة ومتكاملة من العلامات، من بينها العلامات اللغوية. و تعود ضرورة حضور هذا المكون في بناء الرسالة الإشهارية لقدراته التواصلية الخاصة الكفيلة بسد الخصاص التعبيري الملحوظ في الوسائل الأخرى. وتحصين القراءة من كل انزلاق تأويلي محتمل، من شأنه الإخلال بالهدف الأساسي للصورة. حقيقة يكفي للتأكد منها التذكير بالفرقين الجوهريين الموجودين بين العلامتين، الإيقونية واللسانية:

الأول يتمثل فيما يسميه الباحث لويس بورشي ( louis porcher)  ب : ( الدلالة الهشة جدا )(26) للعلامة الإيقونية، مقارنة بمثيلتها اللسانية. خاصية يرجعها نفس الباحث لسببين اثنين:

أولهما يرتبط بغياب العلاقة التوافقية بين الدال والمدلول في علم الصورة ( iconologie) ،عكس ما هو حاصل في اللسانيات : ( فما نلاحظه فعلا، هو أن نفس الدال يمكنه إدارة العديد من المدلولات،  لأن كل مدلول ينقل ، في الغالب ، بكوكبة من الدوال . و في هذه الكوكبة، يمكن لأي دال أن يصبح – دالا بالنيابة – فقط )( 27).

وثانيهما يهم الطبيعة الإيحائية  القوية للإيقونة ، كعلامة معروفة بتكوينها المعقد، لدرجة يكفي معها إحداث تعديل جزئي بسيط في أحد ى مقوماتها ( sémes) لتغيير دلالتها العامة ككل .

أما الثاني فيرتبط بقصور العلامة الإيقونية عن أداء بعض المهام التعبيرية الخاصة، كنقل أفكار الشخصيات وأقوالهم. مما يستوجب الاستعانة بالوسيلة اللغوية للتغلب على هذا النقص ، واستكمال الأداء الوظيفي . تفاديا لكل ما من شأنه الإخلال بالرسالة الإشهارية، و الزج بها في متاهات التأويل اللآمتناهية المناقضة لطبيعتها.

لهذا فلا غرابة إذا ما وجدنا رولان بارت ( R Barthes) ، يحدد ، منذ اكثر من أربعة عقود ، في دراسة رائدة بعنوان : ( بلاغة الصورة / la rhétorique de l'image)(*) ، وظيفتين أساسيتين للرسالة اللغوية في الصورة الإشهارية:

     الأولى: وظيفة الإرساء أو الشرح ( la fonction d'ancrage ou la légende) : و تتمثل في العمل على توقيف مسيرة تدفق معاني الصورة، والحد من تعددها الدلالي ( sa polysémie) عن طريق ترجيح أو تعيين تأويل بعينه، كما يحدث عادة في الإشهار الصحافي مثلا، حيث ترتهن وظيفة الرسالة اللغوية بتوضيح الصورة ، وحصر كثافتها الإيحائية : ( ففي هذا المستوى ، إذن، تقوم اللغة بوظيفة تحديد المعنى الإيقوني الصريح، لتفادي أخطاء التعيين )( 28).

    و الثانية : و ظيفة تكميلية ( fonction de relais) : و تتجلى أساسا في المهام التعبيرية التكميلية العديدة الموكولة للرسالة اللغوية في الخطاب الإشهاري، ما دامت الصورة، على غناها التواصلي تظل مجرد رسالة بصرية قاصرة عن أداء بعض المهام التعبيرية، ما لم تستعن باللغة. تماما كما قد يلجأ : ( النص أحيانا للصورة لإظهار ما يعجز عن تبليغه )(29). ليتأكد بذلك الطابع التكاملي الوثيق القائم بينهما، لدرجة ذهب معها جان لوك جودار( Jean Luc Godard ) لتشيبه علاقتهما التلازمية : ( بعلاقة كرسي بطاولة: إذا ما أردتم الجلوس للمائدة ، احتجتم لهما معا)( 30).

غير أن هذا المظهر الوظيفي المباشر للرسالة اللغوية في الصورة الإشهارية، ينبغي، مع ذلك، ألا يحجب عنا مظهرا آخر غير مباشر، لا يقل عنه أهمية، و يتعلق الأمر بطابعها التشكيلي، أو ما تسميه مارتين جولي : ( بصورة الكلمات / l’image des mots  )(31). وما تحمله من إيحاءات تعبيرية ، لا شك أن لها تأثيرا قويا في توجيه القراءة، و رسم مسارها، كما نبه لذلك بحق إيتيان بويسنس ( E Buyssens ) في كتابه القيم ( الاتصال و التمفصل اللساني / la communication et l’articulation linguistique ) قائلا : ( لغتنا لها دلالة مزدوجة ، فمن جهة توجد تلك التي نعطيها إياها إراديا ، و التي تعلمناها في المدرسة، و الموجهة لتفهم من قبل متلقي رسائلنا.  ومن جهة أخرى، هناك تلك الدلالة التي نمنحها لها رغما عنا، و التي لم نتعلمها، و يكتشفها عالم الخط (  le graphologue)، الذي لا يهتم بمضمون الرسالة. الدلالتان تتجسدان معا في نفس العلامات الخطية ، و ليس هناك من وسيلة لفصل التجلي اللآإرادي عن التواصل الإرادي سوى التجريد )( 28). وهو ما يذكرنا بالمحاولات الكاليغرافية الرائدة لبعض الشعراء الغربيين، أمثال رامبو( Rimbaud ) وأبولينير( Apollinaire ) . لذلك نعتقد أن دراسة الرسالة اللغوية لن تكون شاملة ما لم تحط بمستويين ، مختلفين ومتكاملين:

الأول :  يخص مظهرها التشكيلي ( l’aspect plastique )، لما يلعبه هذا المظهر، بمختلف تجلياته ، من دور هام في التحديد غير المباشر لمحتوى الرسالة. وهو ما دفع الباحث لوي بورشي للاعتقاد : ( بأن شكل و نوع الطباعة المعتمدة ، يبدوان لنا، عكس ما اعتقد بارت، أنهما يمتلكان ملاءمة سيميولوجية ما)( 32).

و في هذا الإطار ، تكفي الإشارة إلى أن العلاقة التراتبية للطباعة، على ما قد يفصلها أحيانا عن محتوى المكتوب ، تبقى مع ذلك فاعلة في تحديد مسار القراءة ، عموديا أو أفقيا، يمينا أو يسارا… حسب نوعية اللغة والثقافة. و بذلك تسهم ، إلى حد كبير ، في توجيه رؤية المشاهد وتبئيرها في أماكن محددة بعينها، غالبا ما يشكل اسم المنتوج مركزها .

كما أن اعتماد نمط معين في الطباعة يعتبر اختيارا تشكيليا، تتجاوز قيمته التعبيرية الدلالة المباشر للعلامة اللغوية ، لتشمل أبعادا إيحائية إضافية ، لا تخفى أهميتها . لأن الكلمة المعروضة بشكل و لون خاصين، في سياق سوسيو ثقافي عام، غالبا ما تشد المشاهد قبل قراءتها ، والتعرف على مضمونها المباشر. تماما كما يحدث مع المظهر التشكيلي للصورة . لهذا فلا غرابة إذا ما وجدنا الإشهاريين  يستغلون هذا الاختيار، بكثافة عالية، لتحقيق أغراضهم التواصلية ، كما لاحظ ذلك صاحبا كتاب ( دلالة الصورة/ sémantique de l'image  ) :( فالإشهار و الملصقات يلعبان على  طريقة الطباعة، محولين الحروف ، في الغالب، لأشكال تصويرية جذابة)(33).

أما الثاني: فيخص المضمون اللساني ( le contenu linguistique )، و فيه يتم التركيز أساسا على محتوى الرسالة اللغوية المصاحبة للصورة الإشهارية ، بهدف تحديد العلاقة التكاملية القائمة بينهما. و هنا لابد من الاعتراف بالدور الهام الذي تلعب الدراسة المعجمية و التركيبية ، نحوية كانت أو بلاغية، في ضبط آليات اشتغال اللغة، لمؤازرة الصورة، في مهمة الإيقاع بالمشاهد و إقناعه، وتحويله بالتالي لزبون فعلي.

وبذلك يتأكد، بالملموس، ما قلناه سابقا، في بداية هذه الدراسة، من أن البحث في بلاغة الخطاب الإشهاري عامة، و الصورة الثابتة خاصة، ممتع و مفيد . ناهيك عن كونه يشكل فرصة معرفية ثمينة لتجاوز النقص التاريخي الحاصل في ثقافتنا البصرية.

 

 

بيان الإحالات و الهوامش:

 

 

+) نص العرض الذي ساهمت به في الملتقى الدولي الثالث حول السيميائيات و البلاغة ، المنعقد أيام 16/17/18 ديسمبر 2008، بجامعة وهران بالقطر الجزائري الشقيق,

1/ أنظر: la nouvelle encyclopédie.éd.des deux coqs d'or.1976.tome.13.p.2568

2/أنظر:encyclopaedia universalis.France.1997

*/ يعرف القارىء المستهدف، تمييزا له عن القارىء العادي، بكل شخص يسعى الخطاب الإشهاري للتأثيرفيه.

أنظر موسوعة مذكورة سابقا، 1976، الجزء: 13، الصفحة:2569.

*/ أنظر بهذا الخصوص دراستي كل من:

-         فريد الزاهي: الإسلام و الصورة، المفارقة و التأويل.

-     محمد سدرة: وضعية الصورة في الثقافة العربية الإسلامية. ضمن مواد كتاب: الدور التربوي و التعليمي للصورة – الحكاية المصورة نموذجا - ، منشورات كلية الآداب و العلوم الإنسانية، مكناس، سلسلة ندوات. رقم 3/ 1992.

3/ أنظر:nouvelle encyclopédie.éd. Bordas.1988.tome.8.p.4502

4/ أنظر:M.Joly. introduction a l'analyse de l'image.éd.nathan université.1993.p.29

5/ أنظر: M Joly.op.cit.1993.p.61

6/ أنظر:M Joly. op.cit. 1993.p.30

7/ أنظر: : M Joly.op.cit.1993.p.30

8/ أنظر: G Jean.approches sémiologiques de la relation texte-image dans les livres et albums pour enfants.in l'enfant.l'image.et le récit.éd.mouton.1977.p.4

*/ أنظر: Groupe Mu. Traité du signe visuel.éd.seuil.1992

9/ أنظر: M Joly. op.cit.1993.p.82

10/ أنظر: M Joly.op.cit.1993.p.82

*/ أنظر: B Cocula et C Peyroutet. Sémantique de l'image. Pour une approche méthodique des messages visuels. Librairie Delagrave.coll.G Belloc.1986.p.106

11/ أنظر: B Cocula et C Peyroutet .op.cit. 1986.p.106

*/ أنظر: M Joly . op.cit.1993.p.83

*/ أنظر: B Cocula et C Peyroutet . op.cit.1986.p.105

12/ أنظر: B Cocula et C Peyroutet .op. cit.1986.p.89

13/ أنظر: Louis Porcher . introduction a une sémiotique des images .éd . Crédif. 1987.p.88

14/ أنظر: M Joly . op. Cit.1993.p ;85

15/ أنظر: L Porcher .op.cit.1987. p.107

*/أنظر: M Joly .op.cit.1993.p.85

16/ أنظر: L Porcher .op.cit.1987.p.115

17/ أنظر: M Joly .op.cit.1993.p.112

18/ أنظر: M joly. op.cit.1993.p.61

19/ أنظر: M Joly . op. Cit. 1993.p.30

20/ أنظر: M Joly . op;cit.1993.p.72

21/ أنظر: M Joly . op.cit.1993. p.44

22/ أنظر: M Joly . op.cit.1993.p.93

23/ أنظر: L Porcher. Op.cit.1987.p.139/140

24/ أنظر: L Porcher . op.cit.1987.p.129

25/ أنظر: B Cocula et C Peyroutet. Op.cit.1986.p.28

26/ أنظر: L Porcher .op.cit.1987.p.82

27/ أنظر: L Porcher. Op.cit.1987.p.82

*/ أنظر: R Barthes. Rhétorique de l'image. Communications.4. éd .seuil.1964

28/ أنظر: L Porcher. Op. Cit. 1987.p.193

29/ أنظر: G Jean. In. op. Cit. 1977. P.3

30/ أنظر: M Joly .op.cit. 1993. P.101

31/ أنظر: M Joly . op.cit. 1993.p.97

32/ أنظر: L Porcher. Op.cit.1987.p.195

33/ أنظر: B Cocula et C Peyroutet.op.cit.1986. p.35