محفوظ في النقد الجامعي المغربي
د/عبد العالي بوطيب
كلية الآداب / مكناس
حلت قبل أشهر قليلة، و تحديدا في الحادي عشر من شهر دجنبر2012،الذكرى المئوية الأولى لميلاد الأديب العربي الكبير نجيب محفوظ،مناسبة كان من المفروض أن تحظى بعناية و اهتمام خاصين، على المستويين الرسمي و الشعبي، العربي و الدولي،بالنظر للمكانة الأدبية الرفيعة لصاحبها،و ما أعطاه للأدبين العربي و العالمي من روائع خالدة،جعلته يحظى، دون غيره، بتقدير أرفع المحافل الثقافية العالمية،و ما حصوله المستحق سنة 1988 على جائزة نوبل للآداب سوى دليل قاطع على ذلك.
غير أن تزامن هذه المناسبة و ظروف ما بات يعرف بالربيع العربي حال دون تحقيق معظم الأنشطة المبرمجة لتخليد هذه الذكرى، خصوصا على المستوى العربي، كما لاحظ بحق بعض الباحثين قائلا: ( فعلى الرغم مما كان مخططا له للاحتفال بمئوية (أديب نوبل) طوال عام (2011) عبر فعاليات مصرية مختلفة، إلا أنه مع حالة الزخم الثوري الذي عاشته مصر و لا تزال، منذ قيام الثورة ، كان حائلا دون إقامة مثل هذه الفعاليات باستثناء القليل منها)(1)،و هكذا فباستثناء أنشطة ثقافية قليلة أسندت مهمة إنجازها لمؤسسات علمية أجنبية كالجامعة الأمريكية في القاهرة مثلا، لا نكاد نعثر على شيء آخر يذكر، فقد تكفلت هذه المؤسسة : أولا بإنجاز الترجمة الإنجليزية لأعماله الكاملة، و أخرجتها بهذه المناسبة في طبعة فاخرة من عشرين مجلدا تكاد تفوق صفحاتها ثمانية آلاف صفحة ، ليصبح بذلك محفوظ : ( أول أديب عربي تترجم أعماله الكاملة إلى اللغة الإنجليزية، و بالتالي أصبح المجال مفتوحا أمام ترجمته ، عن طريق الإنجليزية ، إلى باقي لغات العالم التي لم يترجم إليها حتى الآن) (2) . و بالمناسبة تجدر الإشارة إلى أن للجامعة الأمريكية في القاهرة : ( الفضل الأول في انتشار ترجمات محفوظ لمختلف لغات العالم ، بعد أن أصبحت وكيله الوحيد في ترجمة أعماله إلى الإنجليزية ، أو الاتفاق على ترجمتها إلى اللغات الأخرى، و بفضلها صدر لمحفوظ حتى الآن أكثر من ست مائة طبعة من أعماله مترجمة إلى أكثر من أربعين لغة... تتصدرها جميعها رواية ( زقاق المدق) التي حظيت وحدها بثلاثين طبعة أجنبية في ثلاثين لغة) (3).
وثانيا بإصدار مرجع ضخم عن ممثل العرب الوحيد في مجمع نوبل ، قام بإعداده شيخ المستعربين دينيس جونسون ديفز(+): ( و يضم مختارات من أهم أعمال محفوظ الروائية و القصصية و كتاباته الأخرى، التي يعتقد ديفز أنها أساسية لكل من يريد أن يتعرف على إبداعات نجيب محفوظ . و في المقدمة التي كتبها في صدر هذا المرجع، يتحدث ديفز عن علاقته الطويلة و الحميمة بمحفوظ، و يحكي بعض الأسرار التي ترتبط بحصوله على جائزة نوبل... و تكمن أهمية هذا الكتاب في أنه يقدم للقارئ الأجنبي وجبة دسمة من إبداعات محفوظ ، و بالتأكيد سيكون له أثر عميق في حفر اسمه في لوحة مشاهير أدباء العالم)( 4).
أما الحدث الأجنبي الثالث الذي شهدته هذه الاحتفالية ، فيتمثل في تكليف جامعة نيويورك المترجم و الباحث الأمريكي ريموند ستوك بتأليف أول سيرة كاملة عن نجيب محفوظ، و هو حدث هام طبعا بالنظر للسرية الكبيرة التي أحاط بها الكاتب حياته الخاصة ، لدرجة يعتبر معها واحدا من الأدباء الكبار القلائل الذين لم يكتبوا سيرهم الذاتية ، كما أن كل : ( ما كتب عن حياته حتى الآن ، سواء ما كتبه هو نفسه ، أو كتبه غيره ، مثل جمال الغيطاني أو يوسف القعيد، أو رجاء النقاش أو غيرهم من الباحثين و الأدباء الذين تناولوا حياة محفوظ ، لا يعدو أن يكون شذرات أو ذكريات أو بعض المذكرات التي لا تكون صورة كاملة عن حياة هذا الإنسان و الروائي العظيم بحق)(5) ، و هو ما يعطي هذا العمل قيمة علمية استثنائية ستكون لها حتما مضاعفات إيجابية لاحقة عديدة ، من أهمها توسيع دائرة التعريف بهذا الهرم الشامخ و بجهوده الأدبية العديدة الرائعة.
أما في الضفة الأخرى العربية ، المعنية و المستفيدة مباشرة ، أكثر من غيرها ، من عطاءات صاحب (الثلاثية) ، فتكاد تنحصر احتفالاتها بهذه المناسبة ، في:
· تنظيم معارض ، كما حصل مثلا في مصر موطنه الأصلي ، ( تضم صورا فوتوغرافية للأديب الراحل ، و جانبا من مقتنياته ، علاوة على أغلفة مؤلفاته باللغة العربية، و الأخرى التي تمت ترجمتها إلى لغات مختلفة ، فيما حظيت الصور الفوتوغرافية التي تم التقاطها للراحل الكبير في مراحل عمرية مختلفة ، بالنصيب الأبرز في المعرض، و منها صور شخصية ، و أخرى تجمعه مع عمالقة الفن و الأدب في مصر و العالم العربي، بالإضافة إلى صور شخصية له مع أفراد أسرته، كما تضمن المعرض التقارير الصحافية المنشورة عن نجيب محفوظ بالصحف المصرية و العربية و الأجنبية التي تناولت مسيرة حياته و مشواره الإبداعي و حتى رحيله ، خصوصا تلك التي تلقي الضوء على فوزه بجائزة نوبل ، و تقديم لأغلفة روايات الأديب العالمي الروائية، و الأغلفة السينمائية التي حملت إبداعاته بعد تحول بعضها إلى أفلام تلفزيونية و سينمائية، و اللافت في المعرض تلك المقتنيات النادرة التي ضمها ، و منها بذلته الشهيرة التي كان يرتديها، و بعض المخطوطات التي كتبها بخط يده ، قبل أن يتوقف عن الكتابة بخطه ، بعد تعرضه لعملية الاغتيال الفاشلة في منتصف التسعينيات من القرن الماضي، و هي الكتابات التي كان بعضها موضوعات لرواياته المختلفة)(6).
· أو في إصدار ملفات خاصة ببعض المجلات الثقافية ، كما فعلت الهيئة المصرية العامة للكتاب، المسؤولة رسميا عن المنشورات الحكومية ، حين ذيلت العدد الأخير، ( رقم 80/ 2012) من مجلة فصول ، في حلتها الجديدة، و المخصص كليا تقريبا للثورة المصرية ، بملف صغير عن ذكرى نجيب محفوظ ، لا يتجاوز عدد مواده الستة، من واحد و ثلاثين مادة و شهادة المشكلة لمجموع مواده، و هو ما يعادل تسعين صفحة من صفحاته الأربعمائة، مما يؤكد بالملموس ، ما قلناه سابقا ، من أن أجواء الثورة الدامية حينا و المتوترة أحيانا كثيرة أخرى، أثرت سلبا على الاحتفالات المقررة بهذه المناسبة، و تؤكد بالتالي المكانة الهامشية التي احتلتها و تحتلها الثقافة و المثقفين في مجتمعاتنا الشرقية.
و إذا كان الوضع على ما وصفناه في مصر ، فالصورة لا تكاد تختلف عنها كثيرا في غيرها من الدول العربية الأخرى ، و هكذا ففيما يخص بلدي المغرب مثلا، يمكنني الجزم بأنه باستثناء المبادرة اليتيمة التي قامت بها الأستاذة الدكتورة زهور كرام ، المتمثل أولا في تنظيم ندوة بالمناسبة في رحاب كلية الآداب و العلوم الإنسانية التابعة لجامعة ابن طفيل بالقنيطرة، و إصرارها القوي ثانيا على نشر موادها ، مطعمة بأخرى ، في كتاب جماعي يخلد هذه الذكرى، فإنني لم أسمع و لم أقرأ عن أي مبادرة ثقافية أخرى ، رسمية كانت أو جمعوية ، في هذا الاتجاه. لذلك لا يسعني بهذه المناسبة إلا أن أتقدم بالشكر الجزيل للأستاذة الفاضلة زهور على التفاتتها النبيلة هاته ، متمنيا لها في الوقت ذاته التوفيق و النجاح.
أما بخصوص مساهمتي الشخصية في هذا الكتاب فتدور ، كما يصرح بذلك عنوانها حول مكانة : ( محفوظ في النقد الجامعي المغربي )، و تتوخى ، من بين ما تتوخاه نقطتين أساسيتين: تتعلق أولاهما برصد حجم حضور أعمال هذا الهرم الشامخ ، بمختلف تجلياتها الأدبية ، من رواية ، لقصة و مسرح ..إلخ ، في النقد الجامعي المغربي. أما ثانيتهما فتهتم بضبط شكل هذا الحضور و قيمته النوعية ، من خلال الوقوف على ما يقدمه من إضافات و إضاءات جديدة ، إن وجدت طبعا ، مقارنة بما هو معروف و متداول عن هذه الأعمال في الدراسات السابقة.
و بالمناسبة أعتقد أني لست في حاجة للتشديد على أن اختيار هذا النوع من النقد تحديدا ، دون غيره من النقود الأخرى،لم يكن اعتباطيا و لا عشوائيا ، بقدر ما هو مؤسس على اعتبارات موضوعية مقصودة ، في مقدمتها المكانية العلمية المحترمة التي يحظى بها في الأوساط الثقافية العربية. كما تؤكد ذلك مجموعة من القرائن و المؤشرات ،بالإضافة طبعا لسمته التوثيقية العالية مقارنة بغيره من النقود الأخرى، الصحافية منها على الخصوص، التي يصعب حصرها و الحصول على معطيات مضبوطة دقيقة عنها ، قادرة على تشكيل قاعدة معلومات مؤكدة لإنجاز دراسة علمية حقيقية، عكس ما هو عليه الأمر في الدراسات الجامعية المحصورة عادة في دلائل بيبليوغرافية معروفة و محددة.
و هكذا فبعودتنا هنا مثلا لدليل الأطروحات و الرسائل الجامعية المناقشة بكلية الآداب و العلوم الإنسانية بالرباط في الفترة الممتدة بين (1964ـ2007) ، الصادر سنة 2008، بمناسبة الذكرى الخمسينية لتأسيس جامعة محمد الخامس ـ أكدال بالرباط ، نلاحظ بخصوص حجم نصيب أعمال محفوظ من هذه البحوث ، ما يلي:
أولا : أن هناك غيابا كليا للبحوث المتعلقة بدراسة أعماله المسرحية ، رغم قيمتها الإبداعية العالية ، كما تؤكد ذلك النصوص المسرحية الخمسة المدرجة ضمن مجموعته القصصية ( تحت المظلة)(+) ، و الظاهر أن المسألة لا تنحصر في النقد الجامعي ، المغربي و العربي وحده ، بقدر ما تشمل مختلف النقود الأخرى، دون استثناء، مما يستوجب فتح نقاش علمي عميق لكشف أسباب هذه الظاهرة الغريبة و الوقوف على خلفياتها(+).
ثانيا : نفس الموقف السلبي الغامض السابق من نسجله ثانية بخصوص إبداعه القصصي، بحيث لا نكاد نعثر في الدليل المذكور على أي بحث جامعي يتناول، كلا أو بعضا، هذا الجانب الإبداعي الهام في إسهامات كاتبنا الكبير، رغم وجود دراسات قيمة عديدة عن هذا الجنس الأدبي الجميل لأدباء آخرين ، بعضهم دون مكانة صاحبنا بكثير ، مما يعطي انطباعا مغلوطا و مشوها عن الصورة الإبداعية الحقيقية لحجم إسهامات كاتبنا الكبير في مختلف الأجناس الأدبية .
و ثالثا و أخيرا: أن حضور محفوظ في البحث الجامعي المغربي يقتصر للأسف الشديد على إبداعه الروائي وحده فقط، دون غيره من الإسهامات الإبداعية المشرقة الأخرى ، القصصية و المسرحية تحديدا ، كما تمت الإشارة لذلك في الملاحظتين السالفتين ، الأولى و الثانية، و إن سجلنا أن هذا الحضور ، مع ذلك ، يبقى، كميا، محتشما جدا ، و لا يرقى للمكانة العالمية العالية التي يتمتع بها أديبنا ، كما تؤكد ذلك معطيات الدليل الجامعي المعتمد .
و هكذا فمن مجموع (155) أطروحة دكتوراه دولة مثلا المجازة ما بين سنتي ( 1964) و( 2007)، لا نعثر سوى على (16) أطروحة عن الجنس الروائي، واحدة منها فقط عن أعمال نجيب محفوظ ، بعنوان : ( أليات إنتاج النص الروائي ، تجربة نجيب محفوظ نموذجا) للباحث عبد اللطيف محفوظ ، تحت إشراف الأستاذ الدكتور محمد مفتاح (+) .
أما على مستوى دبلوم الدراسات العليا، فمن مجموع (473) بحثا ، لا نعثر سوى على (58) بحثا في الرواية ، اثنان منها فقط تتخذ بعض أعمال نجيب محفوظ متنا تطبيقيا لها ، و هما :
· ( النص الروائي و اشتغال التراث السردي ) للباحث عبد السلام أقلمون ، بإشراف مشترك للأستاذين أحمد المعداوي و حسن بحراوي (+).
· و ( مكونات تراثية في بناء الرواية الحديثة من خلال تحليل ثلاث روايات : سرايا بنت الغول، ، دار المتعة ، و ليالي ألف ليلة و ليلة) للباحث نور الدين محقق ، بإشراف الأستاذ الدكتور محمد برادة (+) .
و بذلك يتضح ، بما لا يدع مجالا للشك ، الحضور الكمي الباهت لأعمال أديبنا العالمي الكبير ، على اختلاف تجلياتها ، في المشهد النقدي الجامعي المغربي ، بمستوياته المختلفة ( دكتوراه الدولة و دبلوم الدراسات العليا )، على الأقل كما يعكسه دليل أم الجامعات المغربية ( جامعة محمد الخامس أكدال بالرباط ( في الفترة المذكورة ( 1964ت2007) (+) ،و إن كنت لا أشك في أن الصورة لن تكون مختلفة كثيرا عما هو موجود في جامعات مغربية أخرى ، اللهم إلا ما كان من تاثير التطور الديموغرافي الملحوظ الذي تعرف البلاد (+).
على أنه إذا كان الوضع على ما هو عليه من الناحية الكمية ، فإن الناحية الكيفية ، و هي الأهم طبعا في تقويم الرأسمال الرمزي ، تبدو بالمقابل مبدئيا مغايرة لذلك تماما، كما سيتضح جليا من خلال الدراسة المحايثة اللآحقة للأطروحتين الجامعيتين التاليتين:
الأولى : للباحث محمد أمنصور بعنوان : ( التجريب الروائي عند نجيب محفوظ )، بإشراف الدكتور حسن المنيعي ، نوقشت بكلية الآداب و العلوم الإنسانية ، ظهر المهراز، التابعة لجامعة سيدي محمد بن عبد الله بفاس ، خلال الموسم الجامعي : 2001/2002.
و الثانية : للباحث عبد اللطيف محفوظ ، بعنوان : ( آليات إنتاج النص الروائي، تجربة نجيب محفوظ نموذجا)، بإشراف الدكتور محمد مفتاح ، نوقشت بكلية الآداب و العلوم الإنسانية التابعة لجامعة محمد الخامس ، أكدال ، الرباط ، بتاريخ : 25/1/2000.
و قد وقع اختيارنا عليهما تحديدا لتقريب القراء من كيفية حضور المتن الروائي المحفوظي في البحث الجامعي المغربي ، لاعتبارات موضوعية عديدة ، يكفي التذكير هنا بأبرزها :
· أنهما معا بحثان جامعيان على مستوى دكتوراه الدولة.
· أنهما أنجزا في جامعتين مغربيتين عريقتين مختلفتين ( الرباط/ فاس) ، و بالتالي بإشراف مختلفين ( محمد مفتاح / حسن المنيعي).
· أنهما معا وجدا طريقهما للنشر، عكس العديد من الدراسات الجامعية الأخرى(+).
· و أخيرا ، و هو الأهم ، أنهما يعكسان تصورين نقديين مختلفين لباحثين متميزين ، أثبتا حضورهما في الساحة الثقافية الوطنية.
فماذا يمكن أن يقال عن حقيقة كل عمل منهما ؟ و كيف تعاملا مع أعمال نجيب محفوظ الروائية؟ و من أية زاوية ؟ و ما الإضافة ( الإضافات) النوعية التي يقدمانها عن هذه الأعمال المدروسة ؟
للإجابة عن هذه الأسئلة وغيرها ، لابد من العودة لكل بحث على حده ، للوقوف بنوع من التفصيل على أطروحته المركزية ، و الأدوات النظرية والمنهجية المعتمدة في معالجتها، على أن تكون البداية طبعا بأسبقهما للنشر، و أعني به عمل الباحث محمد أمنصور . فماذا عن هذه الدراسة ؟.
يشتمل هذا المؤلف على حوالي (415) صفحة من القطع المتوسط، موزعة على مقدمة و سبعة أبوب بالإضافة لخلاصة تركيبية و خاتمة، تختص الأبواب الثلاثة الأولى منها ببسط المفاهيم النظرية و الإجرائية المؤسسة لصرح الأطروحة ، المتمثل أساسا فيما يمكن تلخيصه بالرغبة في تصحيح بعض التصورات النقدية المغلوطة الشائعة عن تجربة صاحب ( الثلاثية)، من قبيل تصنيفها كليا ، و دون تمييز ، في خانة الكتابة الروائية الواقعية ، كما لو كانت عملا روائيا واحدا بعناوين و موضوعات مختلفة ، و هو ما يتنافي تماما ، في تقدير الباحث ، و حقيقة السمات الفنية التجريبية لبعض هذه الروايات ، يقول : ( يسعى هذا الكتاب إلى طرق موضوع يفترض أنه جديد في مجال الدراسة الأدبية المتصلة بإنتاج نجيب محفوظ الروائي، إنه موضوع ( الواقعية) الذي ظل يشكل التوصيف الرئيس لجل ذلك الإنتاج، فهل كل ما كتبه نجيب محفوظ في فن الرواية يندرج ضمن هذا المفهوم ؟ و هل التعاطي المنهجي الذي ساد مع رواياته قد قارب ـ الموضوعية ـ في الأحكام و التصنيفات الصادرة عنه .... لتجلية هذا الأمر ، و لوضع هذا الرأي السائد موضع تمحيص و مساءلة، يأتي هذا الكتاب ... ليوضح كيف أن إنتاجه الروائي لم يكن ، في يوم من الأيام ، متشابها و لا متقوقعا في اختيار فني ـ جمالي بعينه ، و إنما عرف تحولات كثيرة سنسعى لتسليط الضوء على المكون ـ التجريبي ـ منها )(7).
لبلوغ هذه الغاية ، و بالتالي تجلية هذا الجانب ( الجوانب ) المنسية في تجريبية تجربة أديبنا العالمي ، و كشف أبعادها و خباياها ، كان لزاما أن يستند الباحث على عتاد معرفي و منهجي دقيق و متجانس ، يتلاءم و الآهداف المعرفية المسطرة، و قد وقع اختياره بالأساس ، كما صرح بذلك في مقدمة أطروحته ، على أراء التشيكي ميلان كونديرا ، و الخلاصات العميقة و الدقيقة التي انتهى إليها من قراءة أم الرواية الغربية (دون كيشوط) ، كما صاغها في كتاباته التنظيرية و الروائية ، و بخاصة في عمله الرئيسي ( فن الرواية )، يقول الباحث : ( لقد كان الدرس الأساسي الذي استخلصناه من قراءة رائعة سرفانتس ( دون كيشوط) يتمثل في ربط أفق الرواية بالبحث عن الحقيقة... و هو أفق يضع الرواية في قلب السؤال عن المعرفة ، بدل جعلها تسعى إلى تقديم أجوبة جاهزة، تتوهم يقين المعرفة المطلقة، أما الصياغة الأكثر دقة لهذه الخلاصة فلم نعثر عليها إلا عند ميلان كونديرا حيث جعل مختلف تنظيراته تؤكد أن لا أحد يملك الحقيقة في جنة الرواية ، لنقل إنها الفكرة ـ النطفة التي شكلت البذرة الأولى لتشكل و نمو تصور هذا البحث )(8) .
و هكذا سيتناول في الباب الأول ، من هذا القسم النظري التمهيدي ، قضية ( النظام الثقافي العربي ـ الإسلامي و فن الرواية بين الغياب و الحضور ) ، يقسمه داخليا لثلاثة فصول ، يختص اولها ب ( القدسي و الأدبي ) ، و ثانيها ب ( القص و إشكالية التعبير) ، أما ثالثها فب ( روح الرواية : الأفق الغائب).
و الباب الثاني يدور حول : ( نجيب محفوظ في مرايا نقاده) ، و ينقسم بدوره داخليا لفصلين اثنين ، الأول بعنوان ( من التاريخ إلى الواقع ) ، و الثاني ( صراع القراءات).
أما الباب الثالث و الأخير في هذا القسم النظري فيتعلق ب ( جمالية التمثيل بين المحتمل و اللا محتمل ـ تأطير نظري لمفاهيم و فرضيات البحث )، و يتفرع بدوره لفصلين اثنين ، أولهما بعنوان ( البحث في أسئلة البحث) ، و يتناول أساسا ثلاثة أسئلة أساسية هي على التوالي : (1/ السؤال الجمالي .2/ السؤال الديني . 3/ الأدبي و القدسي). أما ثانيهما فيبحث في ( التمثيل و قواعد المحتمل) من خلال المقاربات الثلاث التالية ( 1/ المقاربة الأفلاطونية . 2/ المقاربة الأرسطية. 3/ الرواية و قواعد المحتمل : المقاربة الواقعية).
بعد هذا التأسيس المفاهيمي العميق و الدقيق الذي استغرق حوالي ( 150) صفحة تقريبا ، ينتقل الباحث في الأبواب الأربعة الباقية لتطبيق التصورات النظرية السابقة على نماذج روائية ثلاثة ، استأثر أولها ( أولاد حارتنا ) لوحده بالبابين المواليين ، الرابع ( أولاد حارتنا و أسئلة القراءة) ،و الخامس ( سلطة الإيهام باحتمالية اللامحتمل في رواية أولاد حارتنا ). بينما اقتسم العملان الآخران بالتساوي البابين المتبقيين ، و هكذا استفردت الرواية الثانية ( رحلة ابن فطومة) بالباب السادس ( رحلة ابن فطومة و تمجيد المثالية : استكشاف معنى المغامرة) ، و الرواية الثالثة ( ليالي ألف ليلة)بالباب السابع و الأخير ( حكمة اللامعقول في ليالي ألف ليلة). لينتهي الباحث في خلاصته التركيبية ، بعد رحلة تحليلية ممتعة امتدت لحوالي (250) صفحة، إلى نتائج عديدة و مختلفة ، تلتقي جميعها عند مسألة تصحيح الصورة المغلوطة التي حاولت بعض الدراسات التبسيطية السابقة إلصاقها تعسفا بتجربة كاتبنا الكبير، و المتمثلة في تصنيفها بشكل جماعي ، دون تمييز ، في خانة الكتابة الواقعية ، كما لو كانت رواية واحدة ، تجتر، دون اجتهاد ، نفس النمط الإبداعي . و هو ما يتنافى طبعا ، على الأقل من وجهة نظر الباحث، و حقيقة هذه التجربة الروائية العربية الرائدة ، و تفنده المقومات الفنية المتنوعة العديدة للنماذج المدروسة ، يقول الباحث : ( لقد حاولنا في هذا البحث ملامسة قضايا الجمالية و التمثيل و المحتمل و اللامحتمل من خلال إطار عام هو إشكال التجريب ، فحرصنا منذ البداية على رسم هدف محدد لأطروحتنا يتمثل في تصحيح الصورة الأدبية السائدة عن نجيب محفوظ عند بعض النقاد و الأدباء ، و التي تروج أنه روائي تقليدي و متجاوز ..إلخ ، لقد كان عاينا أن نعيد بناء تلك الصورة وفق منظور جمالي جديد أسهبنا في الكشف عن خلفياته النظرية و المنهجية ، و نظرا لطبيعة الإغراء الذي مثله هذا الموضوع بالنسبة لنا ، فقد لازمنا طيلة البحث ما يشبه التناقض الوجداني أو التوزع بين الحاجة إلى الطابع العلمي ـ الأكاديمي ، و الرغبة في الدفاع عن وجهة نظر خاصة في الموضوع ، فهل وفقنا في تذليل هذه الصعوبة ؟ ذاك ما نتمناه )(9).
على أنه إذا كان أمنصور يترك مهمة تقدير حجم المجهود المبذول و النتائج المتحصل عليها للقارئ ، رغم اقتناعه الضمني المسبق برجاحة حججه و قوة أطروحته ، فما ذلك إلا لتواضعه طبعا ، و الحقيقة أن هذه الأطروحة ، كغيرها من الأطاريح الجادة ، تؤكد بالملموس ، و بما لا يدع مجالا للشك ، صحة ما بات يعرف بظاهرة تفوق النقد المغربي على المستوى العربي.
حقيقة سنلمسها مجددا، بشكل آخر طبعا ، مع الأطروحة الثانية و الأخيرة المعتمدة في هذه الدراسة كنموذج للتدليل على الكيفية المتقدمة التي يحضر بها المتن الروائي المحفوظي في النقد الجامعي بالمغرب ، و هي ، كما سبقت الإشارة لذلك ، بعنوان : ( المعنى و فرضيات الإنتاج ، مقاربة سيميائية في روايات نجيب محفوظ ) أعدها الباحث المتميز عبد اللطيف محفوظ تحت إشراف الأستاذ الفاضل الدكتور محمد مفتاح (+) ، و هي في صيغتها المنشورة مقسمة لجزءين : الأول بعنوان : ( آليات إنتاج النص الروائي : نحو تصور سيميائي)، و يعد بمثابة تمهيد نظري للجزء الثاني ، موضوع اهتمامنا في هذه الدراسة ، و هو : ( المعنى و فرضيات الإنتاج ، مقاربة سيميائية في روايات نجيب محفوظ)، و يسعى ، من بين ما يسعى إليه ، كما يصرح بذلك عنوانه ، و يؤكده الباحث في مقدمته لإبراز : ( أن الرواية جنس تعبيري إيديولوجي و جمالي يتوسل لكي يتجسد بوسائل بلاغية و منطقية : و قد نتج عن ذلك أن تم ربط الأساس الذهني لإنتاج الرواية بفكرة إيديولوجية حاملة لتصور ما عن العالم و الإنسان و المجتمع، و هي الفكرة التي تحول ، وفق مقاييس حجاجية إلى حكاية منسوجة بناء على قيود الضرورة و المحتمل الملائمين للفكرة الإيديولوجية ، و للحساسية المعرفية و الجمالية المهيمنة على التلقي المحاقب لزمن الإنتاج ، ثم ليتحول كل ذلك إلى أشكال لغوية خاضعة لأشكال التقنية الخاصة التي تتولى ربط النص المفرد ( رواية ما ) بالجنس ( الرواية)) (10) .
و قد اعتمد الباحث في توضيح و تأسيس تصوره المعرفي السابق لآليات إنتاج المعنى في النصوص الروائية على مجموعة من النظريات و المعارف ، من أهمها نظريتي لوكاش و باختين ، و فلسفة بورس الذريعية التداولية ، بالإضافة لنظرية جمالية التلقي ، و السيميائيات السردية و غيرها. مما تمت الإشارة إليه بتفصيل مستفيض في الكتاب الأول ، و تم التذكير بأهم ما جاء فيه في القسم النظري التمهيدي للكتاب الثاني .لمن فاتته فرصة الاطلاع عليها في الجزء الأول ، يقول : ( ... و بما أنه من الممكن ألا يكون القارئ مطلعا على الكتاب النظري الأول ، فقد عملنا ما أمكن على تبسيط المفاهيم و توضيحها ، إما عن طريق التذكير بمعانيها الموجزة أو عن طريق جعلها تتضح من خلال تحليل النصوص ، أو عن طريقهما معا)(11)، قبل أن ينتقل في الشق التطبيقي الموالي للبرهنة على مدى نجاعة و إجرائية التصورات النظرية السابقة في دراسة مجموعة من روايات أديبنا العربي الكبير نجيب محفوظ : ( ما دام حضور تجربته في هذا الكتاب مقصور على توضيح آليات الإنتاج المحايثة المتحكمة في كتابة الرواية عامة)(12) ، لينتهي بعد دراسة عميقة و مستفيضة لخلاصة علمية عامة مفادها : ( أن المدارات السياقية عند محفوظ ، كما هي عند غيره، لا بد و أن تكون متغايرة ، تبعا لتغاير أشكال الوعي بالعالم أثناء اتخاذ قرار الكتابة، و قد لا يكون هذا التغير ناتجا عن العالم أو عن المتبدي ، و لكنه قد يكون نابعا من المتبدي الخاص بالمنتج نفسه ، و الذي يخضع للتعديل كلما تغير شكل وعيه بالعالم أو بالواقع، إما تحت تاثير التحولات السياسية التي تنعكس بجلاء على الوعي بالمتبدي، و إما نتيجة التحولات المعرفية المجردة.. و التي تشكل في العمق آليات لإدراك و وعي الأدلة، و الواقع أن كل هذه الأشكال المتحكمة في التغيير حاضرة في متن نجيب محفوظ الروائي، و الدليل على ذلك أن وتيرة إنتاجه المنتظمة عامة تخترق كلما لحق المتبدي تحول جوهري ، بوفقات استثنائية ، لتعود من جديد مانحة نصوصا مختلفة شكلا و مضمونا، و يعني ذلك أن التغيير عائد إلى شكل المتبدي نفسه)(13).
ليتأكد بذلك ، من خلال هذه الأطروحة الثانية ، كما في الأولى ، ما قلناه سابقا ، من أن الحضور الكمي الضامر للمتن الروائي المحفوظي في النقد الجامعي المغربي ، كما تعكسه الأرقام الواردة في البيبليوغرافية المعتمدة ، لا يعد مؤشرا كافيا لتقويم حقيقة المكانة الاعتبارية العالية التي تحظى بها أعمال هذا الأديب العربي الكبير في بحوثنا الجامعية، ما لم يقرن بتقويم كيفي محتكم لمعيار الجودة و الحداثة ، و بالتالي لحجم الإضاءات المعرفية الجديدة المضافة لما هو معروف سلفا عنها في دراسات سابقة، عملا بالقاعدة النقدية القائلة بأن قيمة الإنتاجات الرمزية ، بما فيها البحوث العلمية طبعا ، في قيمة إضافاتها . و هو ما نعتقد صادقين أنه تجسد بامتياز في الأطروحتين السابقتين .
بيان الإحالات و الهوامش:
1/ علا محمود سامي : نجيب محفوظ أديب نوبل الحاضر الغائب، مجلة دبي الثقافية، عدد: 81 فبراير 2012، ص: 83.
2/ زكريا أحمد : نجيب محفوظ بعيون الغرب، مجلة دبي الثقافية ، عدد :81 فبراير 2012، ص:72.
3/ زكريا أحمد : دراسة مذكورة ، ص:72.
+/ مستعرب يحظى بتقدير كبير في الأوساط الثقافية العربية و الأجنبية ، بعد أن قام بترجمة أكثر من ثلاثين كتابا ، تضم روايات و قصصا قصيرة من مختلف الدول العربية ، و من بينها بعض أعمال محفوظ ، و رواية ( موسم الهجرة إلى الشمال ) للطيب صالح ، و قد حصل مؤخرا على جائزة المغفور له الشيخ زايد في عام 2007.
4/ زكريا أحمد : دراسة مذكورة ، ص:72.
5/ زكريا أحمد : دراسة مذكورة، ص:73.
6/ علا محمود سامي : دراسة مذكورة ، ص: 83.
+/ و هي : يميت و يحيي/ التركة/ النجاة/ مشروع مناقشة/ و المهمة.
+/ فباستثناء ثلاث دراسات وقفت عليها في هذا المجال ، الأولى للدكتور عطية العقاد ، نشرت سنة 2010 بجريدة ( مسرحنا) بعنوان ( نجيب محفوظ كاتبا مسرحيا)، و الثانية بنفس العنوان للأستاذ كرم محمود عفيفي نشرت ضمن مواد الملف الذي أعدته مجلة دبي الثقافية بنفس المناسبة ، عدد: 81 فبراير 2012، أما الثالثة فللأستاذ حسن بحراوي سبق أن شارك بها في يوم دراسي نظمته شعبة اللغة العربية بكلية الآداب و العلوم الإنسانية التابعة لجامعة محمد الخامس ـ أكدال بالرباط ، سنة : 2006، بمناسبة أربعينية وفاة نجيب محفوظ ، لكنه لم ينشرها لحد الساعة فيما أعلم.
+/ و قد نوقشت بتاريخ : 25/1/ 2000، كما أنها و جدت طريقها للنشر سنة : 2008.
+/ و قد نوقشت بتاريخ : 23/6/1995، و نشرت سنة :2000 عن الدار الأحمدية للنشر بالبيضاء ، تحت عنوان : ( النص الروائي و التراث السردي ).
+/ و قد نوقشت بتاريخ: 4/11/1997.
+/ أنظر بهذا الخصوص : دليل الأطروحات و الرسائل الجامعية المناقشة بكلية الآداب و العلوم الإنسانية التابعة لجامعة محمد الخامس ـ أكدال بالرباط ما بين 5 1964 ـ 2007) ، منشورات الكلية ، سلسلة دراسات بيبليوغرافية ، عدد: 9، سنة : 2008، بمناسبة الذكرى الخمسينية لتأسيس الكلية .
+/ لقد أخبرني الصديق الدكتور رشيد بنحدو بأنه أشرف شخصيا بكلية الآداب ـ ظهر المهراز بفاس ، على ما لا يقل عن ثلاث أطاريح في هذا الموضوع ، من بينها أطروحة الباحث محمد فكري : ( نجيب محفوظ بين الإنتاج النصي و التلقي النقدي ) ، نوقشت بتاريخ : 15/1/ 2004، أمام لجنة علمية مؤلفة من السادة الأساتذة : رشيد بنحدو/ يونس لوليدي/ حسن سرحان/ و محمد عز الدين التازي.
+/ محمد أمنصور : التجريب عند نجيب محفوظ ، منشورات المجلس الأعلى للثقافة بالقاهرة، سنة : 2006.
عبد اللطيف محفوظ : المعنى و فرضيا الإنتاج ، مقاربة سيميائية في روايات نجيب محفوظ، منشورات الاختلاف و الدار العربية للعلوم ناشرون ، الجزائر ـ لبنان ، سنة: 2008.
7/ محمد أمنصور : مرجع مذكور ، 2006، ص: 5.
8/ محمد أمنصور : مرجع مذكور ، 2006، ص: 7/8.
9/ محمد أمنصور: مرجع مذكور ، 2006، ص:412.
+/ و قد نوقشت بتاريخ : 25/1/2000، بكلية الآداب و العلوم الإنسانية التابعة لجامعة محمد الخامس ـ أكدال بالرباط.
10/ عبد اللطيف محفوظ : مرجع مذكور ، 2008، ص:9.
11/ عبد اللطيف محفوظ: مرجع مذكور ، 2008، ص:9.
12/ عبد اللطيف محفوظ : مرجع مذكور ، 2008، ص:50.
13/ عبد اللطيف محفوظ : مرجع مذكور ، 2008، ص:44.